المنشورات

كتاب تلقاه يمدح الصمت ويذم الكلام

فصل منه: أمتع الله بك وأبقى نعمه عندك؛ وجعلك ممّن إذا عرف الحقّ انقاد له، وإذا رأى الباطل أنكره وتزحزح عنه.
قد قرأت كتابك فيما وصفت من فضيلة الصّمت، وشرحت من مناقب السّكوت، ولخّصت من وضوح أسبابهما، وأحمدت من منفعة عاقبتهما وجريت في مجرى فنون الأقاويل فيهما، وذكرت أنّك وجدت الصّمت أفضل من الكلام في مواطن كثيرة وإن كان صوابا، وألفيت السّكوت أحمد من المنطق في مواضع جمّة، وإن كان حقّا.
وزعمت أنّ اللّسان من مسالك الخنا، الجالب على صاحبه البلا.
وقلت: إنّ حفظ اللسان أمثل من التورّط في الكلام.
وسمّيت الغبيّ عاقلا، والصّامت حليما، والساكت لبيبا، والمطرق مفكّرا. وسمّيت البليغ مكثارا والخطيب مهذارا والفصيح مفرطا، والمنطيق مطنبا. 
وقلت: إنّك لم تندم على الصّمت قطّ وإن كان منك عيّا، وأنّك ندمت على الكلام مرارا وإن كان [منك] صوابا.
واحتجاجك في ذلك بقول كسرى أنو شروان، واعتصامك فيها بما سار من أقاويل الشّعراء والمتّسق من كلام الأدباء، وإفراطهم في مذمّة الكلام، وإطنابهم في محمدة السّكوت.
وأتيت- حفظك الله- على جميع ما ذكرت من ذلك، ووصفت ولخّصت، وشرحت وأطنبت فيها وفرطت بالفهم، وتصفّحتها بالعلم، وبحثت بالحزم، ووعيت بالعزم، فوجدتها كلام امرىء قد أعجب برأيه وارتطم في هواه، وظنّ أنّه قد نسج فيها كلاما، وألّف ألفاظا ونسق له معاني على نحو مأخذه.
ومقصده أن لا يلفي له ناقضا في دهره بعد أن أبرمها، ولا يجد فيها مناويا في عصره بعد أن أحكمها. وأنّ حجّته قد لزمت جميع الأنام، ودحضت حجّة قاطبة أهل الأديان، لما شرح فيها من البرهان، وأوضح بالبيان. وحتّى كان القول من القائل نقضا، ورفع الوصف من الواصف تغلّبا، وكان في موضع لا ينازعه فيه أحد، وقلّما يجد من يخاصمه، ولا يلفى أبدا من يناضله، وصار فلجا [بحجّته] أو حديّا في لهجته، إذ كان محلّه محلّ الوحدة، والأنس بالخلوة، وكان مثله في ذلك [مثل] من تخلّص إلى الحاكم وحده فلجّ بحجّته.
وإنّي سأوضّح ذلك ببرهان قاطع، وبيان ساطع، وأشرح فيه من الحجج ما يظهر، ومن الحقّ ما يقهر، بقدر ما أتت عليه معرفتي، وبلغته قوّتي، وملكته طاقتي، بما لا يستطيع أحد ردّه، ولا يمكنه إنكاره وجحده. ولا قوة إلّا بالله، وبه أستعين، وعليه أتوكّل وإليه أنيب.










مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید