المنشورات

الكلام يميز الانسان عن الحيوانات والجمادات

ولم أجد للصّمت فضلا على الكلام ممّا يحتمله القياس، لأنّك تصف الصمت [بالكلام، ولا تصف الكلام به. ولو كان الصّمت] أفضل والسّكوت أمثل لما عزف للآدميّين فضل على غيرهم، ولا فرق بينهم وبين شيء من أنواع الحيوان وأخياف الخلق في أصناف جواهرها واختلاف طبائعها، وافتراق حالاتها وأجناس أبدانها في أعيانها وألوانها. بل لم يمكن أن يميّز بينهم وبين الأصنام المنصوبة والأوثان المنحوتة، وكان كلّ قائم وقاعد، ومتحرّك وساكن، ومنصوب وثابت، في شرع سواء ومنزلة واحدة، وقسمة مشاكلة؛ إذ كانوا في معنى الصّمت بالجثّة واحدا، وفي معنى الكلام بالمنطق متباينا.
ولذلك صارت الأشياء مختلفة في المعاني، مؤتلفة الأشكال، إذ كانت في أشكال خلقتها متّفقة بتركيب جواهرها، وتأليف أجزائها، وكمال أبدانها، وفي معنى الكمال متباينة عند مفهوم نغماتها، ومنظوم ألفاظها، وبيان معالمها وعدل شواهدها.
مع أنّي لم أنكر فضيلة الصّمت، ولم أهجّن ذكره إلّا أنّ فضله خاصّ دون عام، وفضل الكلام خاصّ وعام، وأن الاثنين إذا اشتمل عليهما فضل كان حظّهما أكثر، ونصيبهما [أوفر من الواحد. ولعلّه أن يكون بكلمة واحدة نجاة] خلق، وخلاص أمّة.
ومن أكثر ما يذكر للسّاكت من الفضل، ويوصف له من المنقبة أن يقال يسكت ليتوقّى به عن الإثم، وذلك فضل خاصّ دون عامّ.
ومن أقلّ ما يحتكم عليه أن يقال غبيّ أو جاهل، فيكون في ذلك لازم ذنب على التوهّم به، فيجتمع مع وقوع اسم الجاهل عليه ما ورّط فيه صاحبه من الوزر.
والذي ذكر من تفضيل الكلام ما ينطق به القرآن، وجاءت فيه الرّوايات عن الثّقات، في الأحاديث المنقولات، والأقاصيص المرويّات، والسّمر والحكايات، وما تكلّمت به الخطباء ونطقت فيه البلغاء- أكثر من أن يبلغ آخرها، ويدرك أوّلها، ولكن قد ذكرت من ذلك على قدر الكفاية، ومن الله التوفيق والهداية.
ولم نر الصّمت- أسعدك الله- أحمد في موضع إلّا وكان الكلام فيه أحمد، لتسارع النّاس إلى تفضيل الكلام، لظهور علّته، ووضوح جليّته، ومغبّة نفعه.















مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید