المنشورات

ذم الغيظ

وهذا البرهان صحيح ما صحّ النظم، وقام التعديل، واستوت الأسباب.
ولا أعلم نارا أبلغ في إحراق أهلها من نار الغيظ، ولا حركة أنقض لقوّة الأبدان من طلب الطوائل مع قلة الهدوء والجهل بمنافع الجمام، وإعطاء الحالات أقسامها من التدبير.
ولا أعلم تجارة أكثر خسرانا ولا أخفّ ميزانا من عداوة العاقل [العالم] ، وإطلاق لسان الجليس المداخل، والشّعار دون الدّثار، والخاصّ دون العامّ.
والطالب- جعلت فداك- بعرض ظفر ما لم يخرج المطلوب، وإليه الخيار ما لم تقع المنازلة. ومن الحزم ألّا تخرج إلى العدوّ إلّا ومعك من القوى ما يغمر الفضلة التي ينتجها له الإخراج. ولا بدّ أيضا من حزم يحذّرك مصارع البغي، ويخوّفك ناصر المطلوب.
وبعد- أبقاك الله- فأنت على يقين من موضع ألم الغيظ من نفسك، والغيظ عذاب. ولربّما زاد التشفّي في الغيظ ولم ينقص منه. ولست على يقين من نفوذ سهمك في صيدك [كما أيقنت بموضع الغيظ من صدرك] .
والحازم لا يلتمس شفاء غيظه باجتلاب ضعفه، ولا يطفىء نار غضبه تأخّر عقوبة من أغضبه، ولا يسدّد سهمه إلّا والغرض ممكن، والغاية قريبة، ولا يهرب إلّا والمهرب معجزة.
إنّ سلطان الغيظ غشوم، وإنّ حكم الغضب جائر، وأضعف ما يكون العزم على التصرّف أضعف ما يكون الحزم. والغضب في طباع شيطان، والهوى يتصوّر في صورة امرأة، فلا يبصر مساقط العيب ومواقع الشّرف إلّا كلّ معتدل الطباع، ومعتدل الأخلاط مستوي الأسباب.
والله لقد كنت أكره لك سرف الرضا مخافة جواذبه إلى سرف الهوى.
فما ظنّك بسرف الغضب، وبغلبة الغيظ، ولا سيّما ممّن قد تعوّد إهمال النّفس ولم يعوّدها الصبر، ولم يعرّفها موضع الحظّ في تجرّع مرارة العفو، وأن المراد من الأمور عواقبها لا عواجلها.
ولقد كنت أشفق عليك من إفراط السّرور فما ظنّك بإفراط الغيظ. وقد قال بعض الناس: لا خير في طول الرّاحة إذا كان يورث الغفلة، ولا في الكفاية إذا كان يؤدّي إلى المعجزة، ولا في كثرة الغنى إذا كان يخرج إلى البلدة.
جعلت فداك. إنّ داء الحزن وإن كان قاتلا فإنه داء مماطل، وسقمه سقم مطاول، ومعه من التمهّل بقدر قسطه من أناة المرّة السوداء. وداء الغيظ سفيه طيّاش، وعجول فحّاش، يعجل عن التوبة، ويقطع دون الوصيّة، ومعه من الخرق بقدر قسطه من التهاب المرّة الحمراء. [والعجول يخطىء وإن ظفر، فكيف به إذا أخفق. على أنّ إخفاقه يزيد في حقيقة خطئه كما أنّ ظفره لا ينتقص من مقدار زلله] . وأنت روح كما أنت وحشيّ من قرنك إلى قدمك. وعمل الآفة في الدّقاق والعتاق أسرع، وحدّها عن الغلاظ الجفاة أكلّ؛ فلذلك اشتدّ جزعي لك من سلطان الغيظ وغلبته.
والله لو كنت ابتلعت مزار بابك، وأبطلت بمر الباطل، ووردت الفظائع كلّها، ونقضت الشّروط بأسرها، وأفسدت نتاجك، وقتلت كلّ شطرنجيّ لك، ورفعت من الدنيا فراهة الخيل، وجعلت المروج كلّها حمىّ، وكنت صداق المرادين، وبرسام الأولاد، ومسخت جميع الجواري في صورة أبي رملة ورددت شطاط خلقك إلى جعودة أبي حثّة وكنت أول من سنّ بيع الرجال في النخّاسين، وفتح باب الظّلم لأصحاب المظالم، وحوّلت إليك عقل أبي دينار، وطبعت على بيان ما نويه، وأعنت على موت المعتصم، وغضبت لمصرع الأفشين، واستجبت للديك الأبيض الأفرق وأحببت صالح بن حنين، وأحوجتك إلى حاتم الرّيش، وكان أبو الشّماخ صديقي، والفارسيّ من شيعتي- لكان ما تركبني به سرفا، ولكنت في هذا العتاب متعدّيا.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید