المنشورات

يجب التمييز في العداوة بين الاخيار والاشرار والمحبين والمبغضين

جعلت فداك، لا تتعرض لعداوة عقلاء الرّواة، ولضغينة حفّاظ المثالب، وللسان من قد عرف بالصّدق والتوخّي، وبقلّة الخطل والتنكّب، ما وجدت عن ذلك مندوحة، ووجدت المذهب عنه واسعا. ولا تعاقب وادّا وإن اضطرّك الوادّ، ولا تجعل طول الصّحبة سببا للتضجّر، واصبر على خلقه فإنّ خلقه خير من جديد غيره. وصداقة المتطرّف غرور، وملالة الصّديق أفن، والعلم بأقدار الذّنوب غامض، وحدود الذنوب في العقاب خفيّة. ولن يعرف العقاب من يجهل قدر الذّنب. والأجرام كثيرة الأشكال، ومتفاوتة في الأقدار. وإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك من مقدار عقابك عليه فانظر في علّته وسببه، وإلى معدنه الذي منه نجم، وعشّه الذي منه درج، ومغرسه الذي منه نبت، وإلى جهة صاحبه في التّتابع والتّترّع، وفي النزوع والثّبات، وإلى قحته عند التقريع، وإلى حيائه عند التعريض، وإلى فطنته عند الرشق والتورية؛ فإنّ فضل الفطنة ربّما دلّ على فرط الاكتراث، وعلى قدر الاكتراث يكون الإقدام والإحجام. فكلّ ذنب كان سببه الدالّة وضيق صدر وغلظ طباع وحدّة مرار، من جهة تأويل أو من جهة غلط في المقادير، أو من طريق [فرط] الأنفة وغلبة طباع الحميّة من بعض الجفوة أو لبعض الأثرة، أو من جهة استحقاقه عند نفسه وفيما زيّن له من عمله، وأنّه مقصّر به مؤخّر عن مرتبته، أو كان مبلّغا عنه أو مكذوبا عليه، وكان ذلك جائزا عليه غير ممتنع فيه- فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل وعلى هذه الأسباب، وفي هذه المجاري، فليس يقف عليها كريم، [ولا يلتفت لها حليم] .
ولست أسمّيه بكثرة معروفه كريما حتى يكون عقله غامرا لعلمه، وعلمه غالبا لطبعه، وحتى يكون عالما بما ترك، وعارفا بما أخذ. واسم الحليم جامع للكظم، والقدرة، والفهم.
فإذا وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلّا البغضة فلو لم ترض لصاحبه بعقاب دون قعر جهنم لعذرك كثير من العقلاء، ولصوّب رأيك عالم من الأشراف.
ومتى كانت (علّته طبيعة البذاء، وخلقه الشّرارة والتسرّع، فاقتله قتل العقارب، وادمغه دمغ رؤوس الحيات. 
وإذا كان ممن لا يسيء فيك القول، ولا يرصدك بالمكروه إلّا لتعطيه على الخوف، وتمنع عرضك من جهبة التقيّة فامنعه جميل رفدك، واحتل في منعه من قبل غيرك؛ فإنّك إن أعطيته على هذه الشريطة، وأعظمته من هذه الحكومة فقد شاركته في سبّ نفسك، واستدعيت الألسنة البذيّة إلى عرضك، وكنت عونا لهم عليك.
وكيف تعاقبه على ذنب لك شطره، وأنت فيه قسيمه، إلا أنّ عليك غرمه ولك غنمه.
ومن العدل المحض والإنصاف الصحيح أن تحطّ عن الحسود نصف عقابه، وأن تقتصر على [بعض] مقداره، لأنّ ألم حسده لك قد كفاك مؤونة شطر غيظك عليه.
وأما الوادّ فلا تعرض له البتة، [ولا تلتفت لفته] ، ولو أتى على الحرث والنسل، وحتى على الرّوح والقلب. ولا تغتر بقوله إنّي وادّ، ولا تحكم له بدعواه بأنى جدّ وامق. وانظر أنت في حديثه وإلى مخارج لفظه، وإلى لحن قوله، وإلى طريقته وطبيعته، وإلى خلقه وخليقته، وإلى تصرّفه وتصميمه وإلى توقّفه وتهوّره. وتأمّل مقدار جزعه من قلة اكتراثه، وانظر إلى غضبه فيك ولك، وإلى انصرافه عمن انصرف عنك وميله إلى من مال إليك، وإلى تسلّمه من الشر وتعرّضه له، وإلى مداهنته وكشف قناعه. بل لا تقض له بجماع ذلك ما كان ذلك في أيام دولتك ومع إقبال من أمرك، وإن طالت الأيام وكثرت الشهور، حتى تنتظم الحالات، وتستوي فيه الأزمان.
نعم، ثمّ لا تحكم له بذلك حتى تكون حاله مقصورة على محبّتك، ومحنوّة على نصيحتك، بالعلل التي توجب الأفعال. والأسباب التي تسخّر القلوب للمودّات، كالعلل الثابتة في الصنيعة، والأسباب الموجودة مع مولى العتاقة؛ فإنّ عللهما خلاف علل مولى الكلالة، وخلاف علل الصّديق الذي لم يزل يرى أنّه مثلك، وأنه يستوجب منك استيجابك، ولا سيما إذا كانت الصنيعة أنت ابتدأتها، وأنت أبو عذرتها.
فإن أنت لم تحكم له بالغاية مع اجتماع هذه العلل فيه، ومع توافيها إليه، ولم تقض له بأقصى الغاية مع ترادف هذه الأسباب وتكامل هذه الدلائل، وتعاون هذه البرهانات، فكل خبر بيّنه زور، وكلّ دلالة فاسدة.
وقد قال الأول: «دلائل الأمور أشد تثبيتا من شهادات الرجال» . إلّا أن يكون في الخبر دليل، ومع الشّهادة برهان؛ لأنّ الدليل لا يكذب ولا ينافق ولا يزيد ولا يبدّل، وشهادة الإنسان لا تمتنع من ذلك، وليس معها أمان من فساد ما كان الإمكان قائما.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید