المنشورات

ذم العجلة

ولا خير في عقوبة تشمت العدوّ المتقادم، وينادي بها العدوّ الحادث.
والأناة أبلغ في الحزم، وأبعد من الذمّ، وأحمد مغبّة وأبعد من خرق العجلة.
وقد قال الأول: «عليك بالأناة؛ فإنك على إيقاع ما أنت موقعه أقدر منك على ردّ ما قد أوقعته» . فقد أخطأ من قال:
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
بل لو قال: والمتأنّي بدرك حاجاته أحقّ، والمستعجل بفوت حاجاته خلق، لكان قد وفّى المعنى حقّه، وأعطى اللّفظ حظّه، و [إن] كان القول لأوّل موزونا والثاني منثورا. ولولا أنه اشتقّ المستعجل من العجلة لما قرنه مالمتأنّي. وينبغي أن يكون الذي غلّطه قولهم: «ربّ عجلة تهب ريثا» .
فجعل الكلام الذي خرج جوابا عندما يعرض من السبب، كالكلام الذي خرج رتجالا، وجعله صاحبه مثلا عاما. فإذا سمّيت العمل عجلة وريثا فاقض على الريث بكثرة الفوت، وبقدر ذلك من العجز، وعلى العجلة بقلّة النّجح، بقدر ذلك من الخرق.
والرّيث والأناة في بلوغ الأمل وإدراك النّعمة كانتهاز الفرصة واهتبال لغرّة. والأناة وإن طالت [فليست من جنس الريث] ، وانتهاز الفرصة وإن كان في غاية السّرعة فليس من جنس العجلة.
وربّت كلمة لا توضع إلّا على معناها الذي جعلت حظّه، وصارت هي حقّه والدالّة عليه دون غيره، كالحزم والعلم، والحلم والرّفق، والأناة والمداراة، والقصد والعدل والاهتبال، وكاليأس والأمل، وكالخرق والعجلة، والمداهنة والتسرّع، والغلوّ والتقصير.
وربّت كلمة تدور مع خلّتها، وتتقلّب مع جاراتها، وإزاء صاحبتها، وعلى قدر ما تقابل من الحالات، وتلاقي من الأسباب، كالحبّ والبغض، والغضب والرّضا، والعزم والإرادة، والإقبال والإدبار، والجدّ والفتور؛ لأن هذا الباب الأخير يكون في الخير والشرّ، ويكون محمودا ويكون مذموما.
وصاحب العجلة- أعزّك الله- صاحب تغرير ومخاطرة، إن ظفر لم يحمده عالم، وإن لم يظفر قطعته الملاوم. والرّيث أخو المعجزة، ومقرون بالحسرة، وعلى مدرجة اللائمة. وصاحب الأناة إن ظفر نفع غيره بالغنم، ونفع نفسه بثمرة العلم، وأطاب ذكره دوام شكره، وحفظ فيه ولده. وإن حرم فمبسوط عذره، ومصوّب رأيه مع انتفاعه بعلمه وما يجد من عزّ حزمه ونبل صوابه، ومع علمه بالذي له عند العقلاء، وبعذره عند الأولياء والأعداء.
وما عندي لك إلّا ما قال الدّهقان لأسد بن عبد الله وهو على خراسان، حين مرّ به وهو يدهق في حبسه:
إن كنت تعطي من ترحم فارحم من تظلم. إنّ السموات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلّا الله، ولا جنّة إلا الثّقة بنزول الغير، ولا سلاح إلّا الابتهال إلى مولى لا يعجزه شيء.
يا أسد، إنّ البغي يصرع أهله، وإنّ الظّلم مرتعه وخيم، فلا تغترّ بإبطاء العقاب من ناصر متى شاء أن يغيث أغاث. وقد أملى لقوم كي يزدادوا إثما. وجميع أهل السّعادة إمّا سالم من ذنب، وإما تارك لإصرار. ومن رغب عن التمادي فقد نال أحد الغنمين، ومن خرج من السعادة فلا غاية له إلا دار الندوة. وسواء- جعلت فداك- ظلمت بالبطش والغشم، أو ظلمت بالدّحس والدّسّ. فشاور لبّك، وناظر حزمك، وقف قبل الوثبة، واحذر زلّة العالم.
وقد قال صاحبكم: من استشار الملالة وقلّد طبيعته الاستطراف، وجعل الخطرة ذنبا، والذنب ذنوبا، ومقدار الطّرفة إصرارا، والصّغير كبيرا، والقليل كثيرا، عاقب على المتروك الذي لا يعبأ به، وبلغ بالبطش إلى حيث لا بقيّة معه، ورأى أن القطيعة التي لا صلة معها، والتخليج الذي لا تجمّل معه، الحزم المحمود؛ وأنّ الاعتزام في كلّ موضع هو الرأي الأصيل.
وقال أيضا: من كانت طبيعته مأمونة عليه عند نفسه، وكان هواه رائده الذي لا يكذبه، والمتأمّر عليه دون عقله، ولم يتوكّل لما لا يهواه على ما يهواه، ولم ينصر تالد الإخوان على الطارف، ولم ينصف المملول المبعد من المستطرف المقرّب، ولم يخف أن تجتذبه العادة، وتتحكم عليه الطبيعة، فليرسم حججهما، ويصوّر صورهما، في كتاب مفرد أو لفظ مسموع، ثم يعرضهما على جهابذة المعاني وأطباء أدواء العقول، على ألا يختار إلّا من لا يدري أيّ النوعين يبغي، وعلى أيّهما يحامي، وأيّهما دواؤه وأيّهما داؤه. فإن لم يستعمل ذلك بما فضل له من سكر سوء العادة، لم يزل متورّطا في الخطاء مغمورا بالذمّ.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید