المنشورات

ابن الزيات يعرض بالجاحظ لاهماله تجليد كتبه ونظمها

سمعتك وأنت تريدني وكأنّك تريد غيري، وكأنّك تشير عليّ من غير أن تنصّني. وتقول: إنّي لأعجب ممّن ترك دفاتر علمه متفرّقة مبثوثة، وكراريس درسه غير مجموعة ولا منظومة، كيف يعرّضها للتجرّم، وكيف لا يمنعها من التفرّق. وعلى أنّ الدفتر إذا انقطعت حزامته، وانحلّ شداده، وتخرّمت ربطه، ولم يكن دونه وقاية ولا جنّة، تفرّق ورقه؛ وإذا تفرّق ورقه اشتدّ جمعه، وعسر نظمه، وامتنع تأليفه، وربّما ضاع أكثره. والدّفّتان أجمع، وضمّ الجلود إليها أصون، والحزم لها أصلح. وينبغي للأشكال أن تنظم وللأشباه أن تؤلّف؛ فإنّ التأليف يزيد الأجزاء الحسنة حسنا، والاجتماع يحدث للمتساوي في الضعف قوة، فإذا فعلت ذلك صرت متى وجدت بعضها فقد وجدت كلّها، ومتى رأيت أدناها فقد رأيت أقصاها؛ فإن نشطت لقراءة جميعها مضيت فيها.
وإذا كانت منظومة، ومعروفة المواضع معلومة، لم تحتج إلى تقليب القماطر على كثرتها، ولا تفتيش الصناديق مع تفاوت مواضعها، وخفّت عليك مؤونتها وقلت فكرتك فيها، وصرفت تلك العناية إلى بعض أمرك، وادّخرت تلك القوّة لنوائب غدك.
وعلى أن ذلك أدلّ على حبّك للعلم، واصطناعك للكتب، وعلى حسن السياسة، والتقدم في إحكام الصناعة.
وقلت: لأمر ما جمعوا أسباع القرآن وسوره في مصحف، ولم يدعوا ما فيه مفرّقا في الصّدور، ولا مبدّدا في الدفاتر، ومفرّقا في القماطر. على ذلك أجمع المسلمون، والسابقون الأولون، والأئمة الرشيدة، والجماعة المحمودة، فتوارثه خلف عن سلف، وتابع عن سابق، وصغير عن كبير، وحديث عن قديم.
ولم أشكّ في أنها نصيحة حازم، ومشورة وامق، أو رأي حضر أو حكمة نبغت، أو صدر جاش فلم يملك، أو علم فاض فلم يردّ، استعمله من استعمله، وتركه من تركه.
فلما أخذت بقولك، وصرت إلى مشورتك وأكثرت حمد الله على إفادتك من العلم وحظّ عنايتك من النّقل، وجمعت البعض إلى البعض، والشّكل إلى الشّكل، وتقدّمت في استجادة الجلود، وفي تمييز الصنّاع، وفي تخيّر البياعات، وغرمت المال، وشغلت البال، وجعلتها مصحفا مصحفا، وأجملتها صنفا صنفا؛ ورأيت أنّي قد أحكمت شأني، وجمعت إليّ أقطاري، رأيت أن أنظر فيها وأنا مستلق ولا أنظر فيها وأنا منتصب، استظهارا على تعب البدن؛ إذ كانت الأسافل مثقلة بالأعالي، وإذ كان الانتصاب يسرع في إدخال الوهن على الأصلاب؛ ولأنّ ذلك أبقى على نور البصر، وأصلح لقوّة الناظر؛ إذ كلّ واحد من هذه المصاحف قد أعجز يدي بثقل جرمه، وضيّق صدري بجفاء حجمه. وإذا ثقل أنكأ الصدر، وأوهن العظم.
وإذا أنا نظرت فيها وأنا جالس سدرت عيني، وتقوّس ظهري، واجتمع الدم في وجهي، وأكرهت بصري على غير جهته، وأجريت شعاع ناظري في غير مجراه.
وقد علمت- أبقاك الله- مع خبرتك بمقابح الأمور، ومواقع المنافع والمضارّ، ثم بمصالح العباد والبلاد، أنّ من كان على مقطع جبل، أو على شرفات قصر، فأراد رؤية السماء على بعدها، وجد ذلك على العين سهلا خفيفا، وإن أراد أن يرى الأرض على قربها، وجد ذلك على العين عبئا ثقيلا. فإن بدا لي أن يقابل عيني به العبد، أو تواجهني به الأمة، كلّفت أخرق النّاس كفّا، وأقلّهم وفقا، وأكثرهم التفاتا، وأحضرهم نعاسا، وأقلّهم على حال واحدة ثباتا، وأجهلهم بمقدار الموافقة، ولمقادير المقابلة، وبحطّ اليد ورفعها، وإمالتها ونصبها. ثم رأيت في تضجّرهم وتكرّههم وفرارهم منه، ما صيّر تجشّمي لثقل وزنه، ومقاساتي لجفاء حجمه، أهون على يدي، وأخفّ على قلبي. فإن تعاطيته عند ذلك بنفسي فشقاء حاضر، وإن ألزمته غيري فغيظ قاتل. وحتّى صارت الحال فيها داعية إلى ترك درسها والمعاودة لقراءتها، مع ما كان فيها من الفائدة الحسنة، والمنافع الجامعة،
ومن شحذ الطبيعة، وتمكين حسن العادة.
ولو لم يكن في ذلك إلا الشّغل عن خوض الخائضين، والبعد عن لهو اللّاهين، ومن الغيبة للناس والتمنّي لما في أيديهم، لقد كان نفع ذلك كثيرا، وموقعه من الدّين والفرض عظيما.
ومتى ثقل الدرس تثاقلت النفس، وتقاعسته الطبيعة. ومتى دام الاستثقال احدث الهجران. وإذا تطاول الكدّ رسخ الزهد. وفي ترك النظر عمى البصر، وفي اهمال الطبيعة كلال حد (الطبيعة. وعلى قدر الحاجات تكون الخواطر، كما انه على قدر غريزة العقل تصح الحوائج وتسقم، وعلى قدر كثرة الحاجة تتحرك الجارحة ويتصرف اللسان، ومع قلة الحركة وبعد العهد بالتصرف يحدث العي ويظهر العجز ويبطىء الخاطر. ومع ذهاب البيان يفسد البرهان. وفي فساد البرهان هلاك الدّنيا وفساد الدين.
فقد بلغت ما أردت، ونلت ما حاولت، فحسبك الآن من شج من بأسوك، ومن قتل من يقتل فيك.
جعلت فداك. إنه ليس يومي منك بواجد، وأنا على عقابك أوجد. وليس ينجي منك معقل وعل، ولا مفازة سبع، ولا قعر بحر، ولا رأس طود، ولا دغل ولا دحل، ولا نفق ولا مغارة ولا مطمورة. وليس ينجيني منك إلا مفازة المهلّب. فان اعرتني قلبه وعلمتني حيلته، وأمكنتّني من سكينه.
وإلا فأنا أوّل من ابتلعته تلك الحية. ولا والله إن بي قوة على الثّعبان، فكيف التّنّين. أعفني من حيّة المهلّب ثم اقتلني أيّ قتلة شئت.
إن احترست منك ألفيت لنفسي كدّا شديدا، وغما طويلا، وطال اغترابي وافتراق الافي، وتعرضت للعدو، وتحرّشت بالسباع. فإن استرسلت اليك لم تر أن تقتلني إلا شرّ قتلة وآلمها، ولم تعذبني إلا باشد النقم وأطولها. ولو اردت ذبحي لاخترت الكليل على المرهف، والتطويل على التذفيف، حتى كأني علمت عليك «شاه مات» ، أو أكلت سبعة وأطعمتك واحدة.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید