المنشورات

ابن الزيات يعيب ورق كتب الجاحظ

وما عليك أن تكون كتبي كلها من الورق الصّينيّ، ومن الكاغد الخراسانيّ؟! قل لي: لم زيّنت النّسخ في الجلود، ولم حثثتني على الأدم، وأنت تعلم أنّ الجلود جافية الحجم، ثقيلة الوزن، إن أصابها الماء بطلت، وإن كان يوم لثق استرخت. ولو لم يكن فيها إلّا أنّها تبغّض إلى أربابها نزول الغيث، وتكرّه إلى مالكيها الحيا، لكان في ذلك ما كفى ومنع منها.
قد علمت أنّ الورّاق. لا يخطّ في تلك الأيام سطرا، ولا يقطع فيها جلدا. وإن نديت- فضلا على أن تمطر، وفضلا على أن تغرق- استرسلت فامتدّت. ومتى جفّت لم تعد إلى حالها إلّا مع تقبّض شديد، وتشنّج قبيح.
وهي أنتن ريحا وأكثر ثمنا، وأحمل للغش: يغشّ الكوفيّ بالواسطيّ، والواسطيّ بالبصريّ، وتعتّق لكي يذهب ريحها وينجاب شعرها. وهي أكثر عقدا وعجرا، وأكثر خباطا وأسقاطا، والصّفرة إليها أسرع، وسرعة انسحاق الخطّ فيها أعمّ. ولو أراد صاحب علم أن يحمل منها قدر ما يكفيه في سفره لما كفاه حمل بعير. ولو أراد مثل ذلك من القطنيّ لكفاه ما يحمل مع زاده.
وقلت لي: عليك بها فإنها أحمل للحكّ والتغيير، وأبقى على تعاور العاريّة وعلى تقليب الأيدي، ولرديدها ثمن، ولطرسها مرجوع، والمعاد منها ينوب عن الجدد. وليس لدفاتر القطنيّ أثمان في السّوق وإن كان فيها كلّ حديث طريف، ولطف مليح، وعلم نفيس. ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلودا ثم كان فيها كلّ شعر بارد وكلّ حديث غثّ، لكانت أثمن، ولكانوا عليها أسرع.
وقلت: وعلى الجلود يعتمد في حساب الدواوين، وفي الصّكاك والعهود، وفي الشّروط وصور العقارات. وفيها تكون نموذجات النقوش، ومنها تكون خرائط البرد. وهنّ أصلح للجرب ولعفاص الجرّة وسداد القارورة. وزعمت أنّ الأرضة إلى الكاغد أسرع، وأنكرت أن تكون الفأرة إلى الجلود أسرع، بل زعمت أنها إلى الكاغد أسرع وله أفسد، فكنت سبب المضرّة في اتّخاذ الجلود والاستبدال بالكاغد، وكنت سبب البليّة في تحويل الدفاتر الخفاف في المحمل، إلى المصاحف التي تثقل الأيدي وتحطّم الصدور، وتقوّس الظهور، وتعمي الأبصار.
وقد كان في الواجب أن يدع الناس اسم المصحف للشيء الذي جمع القرآن دون كل مجلّد، وألّا يروموا جمع شيء من أبواب التعلّم بين الدّفّتين، فيلحقوا بما جعله السّلف للقرآن غير ذلك من العلوم.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید