المنشورات

ابن الزيات يشمت بعدم انجاب الجاحظ

دع عنك كلّ شيء. ما كان عليك أن يكون لي ولد يحيي ذكري ويحوي ميراثي، ولا أخرج من الدنيا بحسرتي، ولا يأكله مراء يرصدني، وابن عمّ يحسدني، ولا يرتع فيه المعدّلون في زمان السّوء، ولا تصطنع فيه الرجال، ويقضى به الذّمام. فقد رأيت صنيعهم في مال المفقود والمناسخة والوارث الضعيف، ومن مات بغير وصية.
جعلت فداك، إن النفوس لا تجود لمولى الكلالة بما تجود به لأولاد الأصلاب وما مسّ تلك الأصلاب؛ لأنّ الرحم الماسّة والقرابة الملتصقة، واللّحمة الملتحمة، وإن أمّلت التركة ونازعت إلى المورّث، فمعها ما يأطرها ويثنيها، ويحزنها ويبكيها، ويحرّك دمها ويستغزر دمعها. وقد يشفع للولد إلى أبيه حال أبيّة كانت من أبيه.
وابن العمّ الذي ليس بالبعيد فيحتّك من جسده، وليس بالقريب المحنوّ على رحمه، وسببه الجاذب له إلى تمنّي مماتي أمتن من سببه إلى تمنّي بقائي، وهو إلى الحال الموجبة للقسوة والغلظة أقرب منه إلى الحال الموجبة للرقّة والعطف. وليس ينصرك إذا نصرك ولا يحامي عليك لقرابته منك، ولكن لعلمه بأنّه متى خذلك حلّ به ضعفك، واجترأ بعد ضعفك عليه عدوّه. فهو يريد بنصره من لا يجب عليه شكره، ويقوّي ضعف غيره بدفع الضعف عن نفسه.
جعلت فداك. ما كان عليك من بنيّ صغير يكون لي، ولا سيّما ولست عندك ممن يدرك كسبه أو تبلغ نصرته، أو يعاين برّه أو يؤمّل إمتاعه.
وما كان عليك مع كبر سنّي وضعف ركني، أن يكون لي ريحانة أشمّها وتمرة أضمّها، وأن أجد إلى الأماني به سببا، وإلى التلهّي سلّما، وأن تكثر لي من جنس سرور الحالم، وبقدر ما يمتّع به راجي السّراب اللامع، حتّى حببت قصر عمري إلى وليّي، وشوّقته إلى ابن عمّي؛ وحتّى زدت فيما عنده مع كثرة ما عنده، وحتّى صيّرني حبّه لموتي إلى حبّ موته، وتأميل مالي [إلى] تأميل فقره؛ وحتى شغلتني عمّن كان يشغل عدوّي عني.
وسواء أعبت عليّ ألا يكون لي ولد قبل أن يكون، أو عبت عليّ ألا يكون بعد أن كان. وإنما يعذّب الله على النيّة والقصد، وعلى التوخّي والعمد.
وكما أنّه سواء أن تحتال في ألا يكون لي مال قبل أن أملكه. أو احتلت في ألا يكون بعد أن ملكته.
وكنت لا أدري ما كان وجه حبّك لإعناتي، والتشييد بذكر ثرائي، والتنويه باسمي، ولا لم زهّدتني في طلب الولد، ورغّبتني في سيرة الرهبان.











مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید