المنشورات

ابن الزيات يتمنى موت الجاحظ

فإذا أنت لم ترفع ذكري في الأغنياء إلّا لتعرض ذنبي للفقراء، ولم تكثّر مالي إلّا لتقوّي العلّة في قتلي، فيا لها مكيدة ما أبعد غورها، ويا لها حفرة ما أبعد قعرها. لقد جمع هذا التدبير لطافة الشّخص ودقّة المسلك، وبعد الغاية.
والله لو دبّرها الإسنكدر على دارا بن دارا، أو استخرجها المهلّب على سفيان بن الأبرد، وفتحت على هرثمة في مكيدة خازم بن خزيمة، ولو دبّرها لقيم بن لقمان على لقمان بن عاد، ولو أراغها قيس بن زهير على حصن بن حذيفة، ولو توجّهت لكهّان بني أسد على دهاة قريش- لقد كان ذلك من تدبيرهم نادرا [بديعا] ، ولكان في مكايدهم شاذّا غريبا. وإنّها لترتفع عن قصير في كيد الزّباء، وعن جذيمة في مشاورة قصير. وما إخالها إلّا ستدقّ على ابن العاص، وتغمض على ابن هند، ويكلّ عنها أخو ثقيف، ويستسلم لها ابن سميّة.
هذا والله التّدبير لا مخاريق العرّاف، وتزاويق الكاهن، وتهاويل الحاوي، ولا ما ينتحلها صاحب الرّئيّ؛ بل تضلّ فيها رقى الهند، وتقرّبها سحرة بابل.
فلو كنت إذ أردت ما أردت، وحاولت ما حاولت، رفعت قبل كلّ شيء المؤانسة، ثم أبيت المؤاكلة، ثم قطعت البرّ، ثم أذنت مع العامّة، ثم أعملت الحرمان، ثم صرّحت بالجفوة، ثم أمرت بالحجاب، ثم صرمت الحبل، ثم عاديت واقتصدت، ثم من بعد ذلك كلّه أسرفت واعتديت، لكنت واحدا ممّن يصبر أو يجزع، فلعلّي كنت أعيش بالرّفق، وأتبلّغ بحشاشة النفس، وأعلّل نفسي بالطمع الكاذب. ولكن فجاءات الحوادث وبغتات البلاء لا يقوم لها الحجر القاسي، ولا الجبل الراسي. فلم تدع غاية في صرف ما بين طبقات التعذيب إلّا أتيت عليها، ولا فضول ما بين قواصم الظهر إلّا بلغتها. فقد متّ الآن فمع من تعيش؟ [بل قد قتلتني فمن الآن تعاشر!] ، كما قال ديوست المغنّي لكسرى حين أمر بقتله لقتله تلميذه بلهبذ: قتلت أنا بلهبذ، وتقتلني، فمن يطربك؟ قال: خلّوا سبيله؛ فإنّ الذي بقي من عمره هو الذي أنطقه بهذه الحجّة.
ولكنّي أقول: قد قتلتني فمع من تعيش؟ أمع الشّطرنجيّين؟! فقد قال جالينوس: إيّاك والاستمتاع بشيء لا يعمّ نفعه.
إنّ الكلام إنما صار أفضل من الصّمت؛ لأنّ نفع الصمت لا يكاد يعدو الصّامت، ونفع الكلام يعمّ القائل والسامع، والغائب والشاهد، والراهن والغابر.
وقالوا: ومما يدلّ من فضل الكلام على الصمت، أنّك بالكلام تخبر عن الصّمت وفضله، ولا تخبر بالصّمت عن فضل الكلام. ولو كان الصمت أفضل لكانت الرسالة صمتا، ولكان عدم القرآن أفضل من القرآن.
وقد فرّق بينهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفصّل وميّز وحصّل، حيث قال: «رحم الله امرأ قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم» .
فجعل حظّ السكوت السلامة وحدها، وجعل حظّ القول الجمع بين الغنيمة والسلامة. وقد يسلم من لا يغنم، ولا يغنم إلّا من سلم.
فأمّا الدوابّ فمن يضع المركب الكريم إلى الصّاحب الكريم؟ ومن يعدل إمتاع بهيمة بإمتاع أديب.
قالت ابنة النّعمان: لم نر فيما جرّبنا من جميع الأصناف أبلغ في خير وشرّ من صاحب. 
ولمّا عزم ابن زياد على الحقنة بعد أن كان تفحّشها قال له حارثة بن بدر: ما أجد أولى بتولّي ذلك من الطبيب. قال عبيد الله: كلّا، فأين الصاحب.
والله أن لو نتجت في كلّ عام ألف شبديز، وأحبلت في كل ليلة أربعة آلاف ربرب، وصار لك كلّ نهر المبارك بدلا من بعض بابك وأكلت رأس الجنيد بن حاق الأشيم، وأحبلت ابن ألغز من إفراط الشّبق، لما كان ينبغي لك أن تعاملنا بهذه المعاملة، ولا كان ينبغي أن تقتلنا هذه القتلة، ولو اقتصرت من العقوبة على شيء دون شيء لكان أعدل، ولو عفوت البتّة لكان أمثل.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید