المنشورات

ما يصيب الانسان يصيب صديقه

وإنما صارت- أبقاك الله- أجزاء النفس وأعضاء الجسد مع كثرة عددها، واختلاف أخلاطها، وتباعد أماكنها، نفسا واحدة وجسدا واحدا، لاستواء الخواطر، ولاتفاقها على الإرادة. فأنت وصديقك الموافق، وخليلك ذو الشكل المطابق، مستويان في المحابّ، متّفقان في الهوى، متشاكلان في الشّهوة؛ وتعاونكما كتعاون جوارح أحدكما، وتسالمكما كتسالم المتّفق من طبائعكما. فإذا بان منك صديقك فقد بان منك شطرك، وإذا اعتلّ خليلك فقد اعتلّ نصفك، بل النفوس المضمّنة كالمعاني المضمّنة، فذهاب بعضها هو ذهاب جميعها. فموتي هو موت صديقي، وحياتي هي حياة صديقي. فلا تبعدنّه من قلبك بعد بدنه من بدنك؛ فقد يقرب البغيض وينأى الحبيب.
ولعلّ بعض طبائعك المخالط لروحك، أن يكون أعدى من كلّ عدو، وأقطع من كلّ سيف، وأخوف عليك من الأسد الضاري، ومن السمّ الساري.
ثم اعلم أنّ الموثّق بمودّته قليل، وقد صار اليوم المعتمد عليه في صحة العقدة، وفي كرم الغيب والعشرة، عنقاء مغرب. ولا أعلم الكبريت الأحمر إلّا أوجد منه. وإني لأظنّ القناعة أكثر منه. وما أكثر من جعل انقطاع سببه وضعف طمعه لانقطاع سببه قناعة:
وقيل ليحيى بن خالد: أي شيء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمّة البعيدة بالعيش الدّون، وصديق قليل الآفات كثير الإمتاع، شكور النفس، ويصيب مواضع المدح. 
لا والله إن تعرف على ظهرها موضعا للسرّ، ولا مكانا للشكوى، ولا روحا تأنس بها، ولا نفسا تسكن إليها. ولو أردت أن تعرّفني من جميع العالمين رجلا لما قدرت على أحد يحتمل الغنى. ومحتمل الفقر قليل، ومحتمل الغنى عديم.
إنّ الخير- أبقاك الله- في أيام كثرته كان قليلا فما ظنّك به في أيام قلّته، وإن الشرّ في أيام قلّته كان كثيرا فما ظنّك به في أيّام كثرته، وأنت غريب في المصطنعين، وأنا غريب في الصنائع، والغريب للغريب نسيب، ونسب المشاكلة وقرابة الطبيعة الموافقة، أقرب من نسب الرحم؛ لأنّ الأرحام مولعة بالتحاسد، لهجة بالتقاطع، وأن التحابّ على طبع المشاكلة. والتلاقي على وفاق من الطبيعة، أبعد من التفاسد، وأبعد من التعادي. وسبب التعادي عرض في طبائع الغرباء، وجوهر في طبائع الأقرباء.
واعلم أنّك لا تزال في وحشة إلى وحشة، وفي غربة إلى غربة، وفي تنكّر العيش وتسخّط الحال، حتى تجد من تشكو إليه بثّك، وتفضي إليه بذات نفسك. ومتى رأيت عجبا لم تضحك رؤيتك له بقدر ما يضحكك إخبارك إياه. فمن أغلب عليك ممّن كانت هذه حاله منك، وموقعه من نفسك.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید