المنشورات

حساد المؤلفين

إنه لم يخل زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلّا وفيه علماء محقّون، قد قرأوا كتب من تقدّمهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا [الموافقين] لهم، وعانوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمّهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا ما بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس، ووصلوا بين المتجاور والمتوازي، واستنبطوا الغامض الباطن بالظاهر البيّن، واستظهروا على الخفيّ المشكل بالمكشوف المعروف، وعرفوا بالفهم الثّاقب والعلم الناصع، وقضت لهم المحنة بالذكاء والفطنة، فوضعوا الكتب في ضروب العلوم وفنون الآداب لأهل زمانهم، والأخلاف من بعدهم.
يزدلفون بذلك إلى الممتنّ عليهم بفضل المعرفة التي ركّبها الله فيهم، وأبانهم من غيرهم، وفضّلهم عليهم، ويباهون به الأمم المخالفة لهم، ويتبارون بذلك فيما بينهم، ولهم حسّاد معارضون من أهل زمانهم في تلك العلوم والكتب، منتحلة يدّعون مثل دعاويهم، قد وسموا أنفسهم بسمات الباطل، وتسمّوا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزّور متزخرفين متشبّعين بما لا محصول له، يحتذون أمثلة المحقّين في زيّهم وهديهم، ويقتفون آثارهم في ألفاظهم وألحاظهم، وحركاتهم وإشاراتهم، لينسبوا إليهم ويحلّوا محلّهم، فاستمالوا بهذه الحيلة قلوب ضعفاء العامّة، وجهلاء الملوك، واتّخذهم المعادون للعلماء المحقّين عدّة يستظهرون بهم عند العامّة. وحمل المدّعية للعلم المزوّر الحسد على بهت العلماء المحقّين، وعضههم والطّعن عليهم، وجرّأهم على ذلك ما رأوا من صفو ضعفة القلوب واذلّة الناس إليهم، وميل جهلاء الملوك معهم عليهم، وأمّلوا أن ينالوا بذلك بشاشة العامة، وتستوي لهم الرّياسة على طغام الناس ورعاعهم، ويستخولوا رعاتهم وقومهم، فهمروا وهدروا وتورّدوا على أهل العلم بغباوتهم، وكشفوا أغطية الجهل عن أنفسهم، وهتكوا سترا كان مسدلا عليهم بالصّمت. فقد قيل: «الصمت زين العالم، وستر الجاهل» ؛ طمعا في الرياسة وحبّا لها.
وقد قيل:
حبّ الرياسة داء لا دواء له ... وقلّما تجد الراضين بالقسم
ولم يخل زمن من الأزمنة من هذه الطبقة ولا يخلو. وهلاك من هلك من الأمم فيما سلف بحبّ الرياسة. وكذلك من يهلك إلى انقضاء الدّهر فبحبّ الرياسة.
وقد قيل: هلاك الناس منذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحبّ الأمر والنّهي، وحبّ السّمع والطاعة.
فأشكل على العامّة أمر العالم الحقيقيّ والمدّعي المجاري المنتحل للزّور والباطل؛ ثم ترادف عليهم من هذه العلل التي يعمى لها السبيل الواضح والطّريق المنشأ، على الجاهل المستضعف؛ وذي الغباء المسترهف.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید