المنشورات

الطاعنون على كتب الجاحظ

بل لا آمن أن يتجاوز ذلك إلى الطّعن عليها بقول أو إشارة، فيوهم فساد معانيها ويومي إلى سقوط ألفاظها، من غير أن يظهر المعاداة لها، والحسد لمؤلفها، والحمل عليها بقول يكون دليلا على ما يضمر، وهو أبلغ ما يكون من قلب المستمع وأنجعه فيه، فيقع ذلك بخلده. وقد قيل: «من يسمع يخل» .
وليس يقابله أحد بردّ، ولا يوازيه بنزاع، فيزداد نشاطا عندما يرى من خلاء الأمر. وقد قيل: «كلّ مجر في الخلاء يسرّ» وكلّ مناظر متفرّد بالنظر مسرور، وإنّما يعرف جري الخيل عند المسابقة، وبراعة النظر عند المخاصمة.
وقال لي بشر المريسي: عرض كتابي على المأمون في تحليل النّبيذ، وبحضرته محمد بن أبي العبّاس الطّوسي، فانبرى للطّعن عليه والمعارضة للحجج التي فيه، وأسهب في ذلك وخطب، وأكثر وأطنب، فقلق المأمون واحتدم، وهاج واضطرم؛ لاستحقار الطّوسي وخلاء المجلس له، وكان يحبّ أن يزعه وازع يكفّه بحجّة تسكته، فلما لم ير أحدا بحضرته يذبّ عن كتابي قال متمثلا:
يا لك من قبّرة بمعمر ... خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
ونقرّي ما شئت أن تنقّري
فما كان إلّا ريث فراغه من التمثّل بهذه الأبيات حتى استؤذن لي فدخلت عليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في النبيذ؟ فقلت: حلّ طلق يا أمير المؤمنين. فقال: فما تقول فيما أسكر كثيره؟ قلت: لعن الله قليله إذا لم يسكر [إلّا] كثيره. ثم قال: إنّ محمدا يخالفك. فأقبلت على ابن أبي العباس فقلت له: ما تقول فيما قال أمير المؤمنين؟ قال: لا خلاف بيني وبينك [و] كلاما يوهم به أهل المجلس، حبّا للتسلّم منّي والتخلّص من مناظرتي، لا على حقيقة التحليل له. فاستغنمت ذلك منه وقلت له: فما لي لا أرى أثر قواه في عقلك؟ فضحك المأمون، فلمّا رأيت ضحكه أطنبت في معاني تحليل النبيذ، وابن أبي العباس ساكت لا ينطق، وكان قبل دخولي ناطقا لا يسكت. فلما رأى المأمون سكوته عند حضوري مع كثرة كلامه في ثلب كتابي وعيبه- كان- قبل دخولي، قال متمثّلا:
ما لك لا تنبح يا كلب الدّوم ... قد كنت نبّاحا فما لك اليوم













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید