المنشورات

فصل ما بين العداوة والحسد

وقال المهلّب بن أبي صفرة: الحسد شهاب لا يبالي من أصاب، وعلى من وقع.
والعداوة لها عقل تسوس به نفسها فينجم قرنها، وتبدي صفحتها في أوقات الهتر. وإلّا فإنها كامنة تنتهز أزمنة الفرض. والحسد مسلوب المعقول بإزاء الضّمير في كلّ حين وزمان ووقت.
ومن لؤم الحسد أنه موكّل بالأدنى فالأدنى، والأخصّ فالأخصّ. والعداوة وإن كانت تقبّح الحسن فهي دون الحسد؛ لأنّ العدوّ المباين قد يحول وليّا منافقا، كما يحول المولى المنافق عدوّا مباينا.
والحاسد لا يزول عن طريقته إلّا بزوال المحسود عليه عنده. والعداوة تحدث لعلّة، فإذا زالت العلّة زالت معها. والحسد تركيب لعلة يحسد عليها فهو لا يزول إلّا بزوالها. ومن هذا قال معاوية رحمه الله: يمكنني أن أرضي الناس كلّهم إلّا حاسد نعمة، فإنّه لا يرضيه منها إلّا زوالها.
وأعداء النّعمة إذا شوركوا فيها ونالوا منها تزحزحوا عن عداوتها، وكانوا من أهلها المحامين عنها، والدافعين عن حماها.
ومن هذا قال المغيرة بن شعبة: النعمة التي يعاش فيها نعمة محروسة ليس عليها ثائر يغتالها، ولا ذو حسد يحتال في غيرها.
وقال قتيبة بن مسلم: خير الخير وأحصنه خير عيش فيه. وكلّ خير كان يرضخ بذلا كان من المتألف ممنوعا، ومن الغير آمنا.
وحسّاد النعمة إن أعطوا منها وتبحبحوا فيها، ازدادوا عليها غيظا وبها إغراء.
والعداوة تخلق وتملّ، والحسد غضّ جديد، حرم أو أعطي، لا يبيد.
فكل حاسد عدوّ، وليس كل عدوّ بحاسد. وإنّما حمل اليهود على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم- وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أنّه نبيّ صادق ورسول محقّ، يقرأون بعثه في توراتهم، ويتدارسونه في بيت مدراسهم- الحسد، وحجز بين علمائهم والإيمان به، ثم نتج لهم الحسد عداوته.
ومن الدليل على أنّ الحسد آلم وآذى وأوجع وأوضع من العداوة، أنّه مغرى بفعل الله عزّ وجلّ، والعداوة عارية من ذلك لا تّتّصل إذا اتّصلت إلّا بأفعال العباد. ولا يعادى على فعل الله تباركت أسماؤه ألا ترى أنك لم تسمع أحدا عادى أحدا لأنّه حسن الصورة جميل المحاسن، فصيح اللسان حسن البيان. وقد رأيت حاسد هذه الطبقة وسمعت به، وهم كثير تعرفهم بالخبر والمشاهدة.
فهذا دليل على أن الحسد لا يكون إلّا عن فساد الطبع، واعوجاج التركيب، واضطراب السّوس.
والحسد أخو الكذب، يجريان في مضما واحد؛ فهما أليفان لا يفترقان، وضجيعان لا يتباينان. والعداوة قد تخلو من الكذب؛ ألا ترى أنّ أولياء الله قد عادو أعداء الله إذ لم يستحلّوا أن يكذبوا عليهم؟! والحسد لا يبرأ من البهت، وكيف يبرأ منه وهو عموده الذي عليه يعتمد، وأساسه الذي به البناء يعقد. وأنشد:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... كذبا ورورا إنّه لدميم
والحسد نار وقوده الرّوح، لا تبوخ أبدا أو يفنى الوقود. والحسد لا يبلى إلّا ببلي المحسود أو الحاسد. والعداوة جمر يوقده الغضب، ويطفئه الرّضا.، فهو مؤمّل الرّجوع مرجوّ الإنابة. والحسد جوهر والعداوة اكتساب.
وقال بعضهم: الحسد أنثى، لأنّه ذليل؛ والعداوة ذكر فحل، لأنّها عزيزة.
والحسد وإن كان موكّلا بالأدنى فالأدنى فإنّه لم يعر منه الأبعد فالأبعد.
فقد رأينا وشاهدنا من كان يسكن العراق وينتحل العلم والأدب، انتهى إليه خبر مشارك له في الصناعة من أهل خراسان وجنبة بلخ من اتّساق الرياسة في بلده، وجميل حاله ونبيل محلّه عند أهل مصره، وطاعة العامّة له، وترادف الناس عليه، فطار قلبه فرقا، وأخذته الأرباء، وتنفّس الصّعداء وانتفض انتفاض المفلس الممطور، فقال لي رجل من إخواني كان عن يميني، حين رأى ما رأى منه: بحقّ قال من قال: «لم ير ظالم أشبه بمظلوم من حاسد نعمة؛ فإنّ نفسه متّصل، وكربه دائم، وفكرته لا تنام» .
وهو في أهل العلم أكثر، وعليهم أغلب، وبهم أشدّ لصوقا منه بغيرهم من الملوك والسّوقة. وكأنّ من ناله التقصير في صناعة العلم عن غايته القصوى قد استشعر حسد كلّ ما يرد عليه من طريف أدب، أو أنيق كلام، أو بديع معنى. بل قد وقع بخلده لضعفه، وقرّ في روعه لخساسته، أنّه لا ينال أحد منهم رياسة في صناعة، ولا يتهيّأ له سياسة أهلها، إلّا بالطّعن على نواصيهم، والعيب لجلّتهم، والتحيّف لحقوقهم.
قال لي مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر، الذي يعرف بصريع الغواني: خيّل إلى نوكى الشّعراء أنّهم لا يقضى لهم بجودة الشّعر إلّا بهجائي والطّعن في شعري، ولسان يهجى به عرضي، لا أنفكّ متّهما من غير جرم، إلّا ما سبق إلى قلوبهم من وساوس الظنون والخواطر التي أوهمتهم أنه لا يسجّل لهم بجودة الشعر إلّا إذا استعملوا فيّ ما خيّل إليهم.
وأخبرني أشياخنا من أهل خراسان أنّ أبا الصّلت الهرويّ كان عند الفضل بن سهل ذي الرياستين بمرو، فقرأ عليه كتابا ألّفه النّضر بن شميل، فطعن أبو الصّلت فيه، وكان الفضل عارفا بالنضر الشّميلي، واثقا بعلمه، مائلا إليه، فأقبل على أبي الصّلت وقال له: إن يحيى بن خالد قال يوما: إنّ كتبي لتعرض على من يغلظ فهمه عن معرفتها، ويجسو ذهنه عنها، ولا يبلغ أقصى علمه ما فيها- يعرّض بإسماعيل بن صبيح- فيطعن فيها ولا يدري ما يقرأ عليه منها. إلّا أن نار الحسد تلهبه فيهذي هذيان المريض، ويهمز همزات الغيرى، ثم لا يرضى أن يقف عند أوّل الطعن ويميل عنه حتّى يستقصي على نفسه إظهار جهله عند أهل المعرفة، باستيعابه الطّعن على ما لم يبلغ درايته، ولم يحط به علمه، ثم ينسيه جهله الطّعن الذي تقدّم منه فيها، ويحمله نوكه على استعمال معانيها وألفاظها، في كتبه إلى إخوانه وأعوانه الذين شهدوه في أوان طعنه عليها، وحين ثلبه لها.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید