المنشورات

الكتاب يطلبون من الجاحظ ان يشاطروه فيء كتبه

وكنت امرأ قليل الحسّاد حتّى اعتصمت بعروتك، واستمسكت بحبلك واستذريت في ظلّك، فتراكم عليّ الحسّاد وازدحموا، ورموني بسهامهم من كل أوب وأفق، وتتايعوا عليّ تتايع الدّثر على مشتار العسل. ولئن كثروا لقد كثر بهبوب ريحك إخواني، وبنضرة أيامك وزهرة دولتك خلّاني. وأنا كما قلت:
فأكثرت حسّادي وأكثرت خلّتي ... وكنت وحسّادي قليل وخلّاني
فلمّا بلغت هذا الفصل من تأليف هذا الكتاب دخل عليّ عشرة نفر من الكتّاب قد شملهم معروفك، ورفع مراتبهم جميل نظرك، فهم من طاعتك والمحبّة لك على حسب ما أوليتهم من إحسانك وجزيل فوائدك، فأفاضوا في حديث من أحاديث الحسد، فشعّب لهم ذلك الحديث شعوبا افتنّوا فيها- والحديث ذو شجون- فما برحوا حتّى أتتني رقعة أناسية من الحسّاد فيها سهام الوعيد، ومقدّمات التهديد والتحذير والتخويف، للطّعن على ما ألّفت من الكتب إن أنا لم أضمن لهم الشركة فيما يجرى عليّ، فدفعت رقعتهم إلى من قرب إليّ منهم، فقرأها ثم قال: «قاتلهم الله! أبظلم يرومون النّيل ويلتمسون الشركة في المعروف! لنزع الرّوح بالكلاليب أهون من بذل معروف بترهيب» . وأنشأ يقول:
أبقى الحوادث من خلي ... لك مثل جندلة المراجم
قد رامني الأعداء قب ... لك فامتنعت من المظالم
ودفعها إلى من قرب منه فقرأها. وقال الثاني: «صكّة جلمود، لكل مرعد حسود، يمتطر العرف بالتهديد. خلّ الوعيد، يذهب في البيد» .
وأنشأ يقول:
أبرق وأرعد يا يزي ... د فما وعيدك لي بضائر
ودفعها إلى الثالث فقرأها وقال: «سألوا ظلما، وخوّفوا هضما، لقوا حربا ولقيت سلما» . وأنشأ يقول:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع
ودفعها إلى الرابع فقرأها وقال: «قول الذّليل وبوله سيّان» . وأنشأ يقول:
ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران
ودفعها إلى الخامس فقرأها وقال: «نهيق الحمار، ودم الأعيار جبار جبار» . وأنشأ يقول:
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس ... أم لحاني بظهر غيب لئيم
ودفعها إلى السادس فقرأها وقال: «إذا علقتك الأمجاد، فليهن عليك الحسّاد» . وأنشأ يقول:
إذا أهل الكرامة أكرموني ... فلا أخشى الهوان من اللّئام
ودفعها إلى السابع فقرأها وقال: «كيف يخاف الصّرعة، من هو في ذي المنعة» . وأنشأ يقول:
كم تنبحون وما يغني نباحكم ... ما يملك الكلب غير النّبح من ضرر
ودفعها إلى العاشر فقرأها وقال: «نوكى هلكى، لم يعرفوا خبرك، ولا دروا أمرك» . وأنشأ يقول:
فلو علم الكلاب بنو الكلاب ... بحالك عند سيّدنا لذلّوا
وعندي صديق لي من السّوقة له أدب، فقال لي بعقب فراغهم مسرّا:
إنّ هؤلاء الكتّاب قد أظهروا الاستخفاف بقول الحسّاد، وضربوا الأمثال في هوانهم عليك، وعرفوا أنّك في منعة من عزّ أبي الحسن أطال الله بقاءه، ومعقل لا يسامى ولا ينال. وأنا أقول بالشّفعة:
توقّ قوما من الحسّاد قد قصدوا ... لحطّ قدرك في سرّ وفي علن
فقلت له: إنّي أقول بيتين هما جوابك وجواب الحسّاد:
إنّ ابن يحيى عبيد الله أمنني ... من الحوادث بعد الخوف من زمني
فلست أحذر حسّادي وإن كثروا ... ما دمت ممسك حبل من أبي الحسن
فلما رأى صديقي اقتفائي آثار الكتّاب، باستهانتي للحساد عند اعتلاقي حبائلك أعزّك الله، أنشأ متمثّلا بقول نصر بن سيّار:
إنّي نشأت وحسّادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم أحدا
إن يحسدوني على ما قد بنيت لهم ... فمثل حسن بلائي جرّ لي الحسدا
وليس العجب أن يكثروا وأنا أنعق بمحاسنك، وأهتف بشكرك، ولكن العجب كيف لا تتفتّت أكبادهم كمدا.
وكان بعضهم يقول: اللهمّ كثّر حسّاد ولدي؛ فإنّهم لا يكثرون إلّا بكثرة النّعمة.
فإن كان والدي سبق منه هذا الدّعاء، فإنّ الإجابة كانت مخبوءة إلى زمان عزّك؛ فقد رأينا تباشيرها، وبدت لنا عند عنايتك غايتها.
وكان بعض الصالحين يقول: اللهم اجعل ولدي محسودين، ولا تجعلهم مرحومين؛ فإنّ يوم المحسود يوم عزّة، ويوم الحاسد يوم ذلّة.
ويقال: إنّه لمّا مات الحجّاج سمعوا جارية خلف جنازته وهي تقول:
اليوم يرحمنا من كان يحسدنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
ويقال: إنّ زياد ابن أبيه قال لحرقة ابنة النعمان: أخبريني بحالكم.
قالت: إن شئت أجملت وإن شئت فسّرت. فقال لها: أجملي، فقالت: «بتنا نحسد، وأصبحنا نرحم» . فخطبها زياد وكانت في دير لها فكشفت عن رأسها، فإذا رأس محلوق، فقالت: أرأس عروس كما ترى يا زياد؟ وأعطاها دنانير فأخذتها وقالت: جزتك يد افتقرت بعد غنى، ولا جزتك يد استغنت بعد فقر! ولا نعلم الحسد جاء فيه شيء أكثر من حديث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله حفظ القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النّهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في وجوه البرّ آناء الليل وآناء النهار» .
فهذا الحسد إنّما هو في طاعة الله عزّ وجلّ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض الأشراف:
احسد على نيل المكارم والعلى ... إذ لم تكن في حالة المحسود
حسد الفتى بالمكرمات لغيره ... كرم ولكن ليس بالمعدود
فهذا ما انتهى إلينا من أخبار الحسد، وزادك الله شرفا وفضلا، وعلما ومعرفة، ولا زلت بالمكان الذي يهدى إليك [فيه] الكتب، وتتحف بنوادر العلوم وفرائد الآداب، إنّه قريب مجيب.
تم الكتاب ولله المنة، وبيده الحول والقوة تتلوه رسالة من كلام أبي عثمان أيضا في ذم القواد والحمد لله أولا وآخرا، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلامه.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید