المنشورات

المديح الخادع ليس من بضاعة الجاحظ

فصل منه: أطال الله بقاءك، وأعزّك وأكرمك، وأتمّ نعمته عليك.
زعم- أبقاك الله- كثير ممّن يقرض الشّعر ويروي معانيه، ويتكلّف الأدب ويجتبيه، أنّه قد يمدح المرجوّ المأمول، والمغشىّ المزور بأن يكون مخدوعا، وعمي الطّرف مغفّلا، وسليم الصّدر للراغبين وحسن الظّنّ بالطالبين، قليل الفطنة لأبواب الاعتذار، عاجزا عن التخلّص إلى معاني الاعتلال، قليل الحذق بردّ الشّفعاء، شديد الخوف من مياسم الشّعراء، حصرا عند الاحتجاج للمنع، سلس القياد إذا نبّهته للبذل، واحتجّوا بقول الشاعر:
ايت الخليفة فاخدعه بمسألة ... إنّ الخليفة للسّؤّال ينخدع
فانتحال المأمول للغفلة التي تعتري الكرام، وانخداع الجواد لخدع الطالبين ومخاريق المستميحين، باب من التكرّم، ومن استدعاء الرّاغب، والتعرّض للمجتدى، والتلطّف لاستخراج الأموال، والاحتيال لحلّ عقد الأشحّاء، وتهييج طبائع الكرام.
وأنا أزعم- أبقاك الله- أنّ إقرار المسؤول بما ينحل من ذلك نوك، وإضماره لؤم، حتّى تصحّ القسمة، ويعتدل الوزن.
وأنا أعوذ بالله من تذكير يناسب الاقتضاء، ومن اقتضاء يضارع الإلحاح.
ومن حرص يعود إلى الحرمان، ومن رسالة ظاهرها زهد، وباطنها رغبة. فإنّ أسقط الكلام وأوغده، وأبعده من السّعادة وأنكده، ما أظهر النّزاهة وأضمر الحرص، وتجلّى للعيون بعين القناعة، واستشعر ذلّة الافتقار.
وأشنع من ذلك، وأقبح منه وأفحش، أن يظنّ صاحبه أنّ معناه خفيّ وهو ظاهر، وتأويله بعيد الغور وهو قريب القعر.
فنسأل الله تعالى السّلامة فإنّها أصل النّعمة عليكم، ونحمده على اتّصال نعمتنا بنعمتكم، وما ألهمنا الله من وصف محاسنكم.
والحمد لله الذي جعل الحمد مستفتح كتابه، وآخر دعوى أهل جنّته.
ولو أنّ رجلا اجتهد في عبادة ربّه، واستفرغ مجهوده في طاعة سيّده، ليهب له الإخلاص في الدّعاء لمن أنعم عليه، وأحسن إليه، لكان حريّا بذلك أن يدرك أقصى غاية الكرم في العاجل، وأرفع درجات الكرامة في الآجل.









مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید