المنشورات

أصول المديح والطلب

والأدب أدبان: أدب خلق، وأدب رواية ولا تكمل أمور صاحب الأدب إلّا بهما، ولا يجتمع له أسباب التّمام إلّا من أجلهما، ولا يعدّ في الرّؤساء، ولا يثنى به الخنصر في الأدباء، حتّى يكون عقله المتأمّر عليهما، والسائس لهما.
فصل منه: فإن تمّت بعد ذلك أسباب الملاقاة تمت المصافاة، وحنّ الإلف إلى سكنه. والشّأن قبل ذلك لما يسبق إلى القلب، ويخفّ على النّفس، ولذلك احترس الحازم المستعدى عليه من السّابق إلى قلب الحاكم عليه.
وكذلك التمسوا الرّفق والتّوفيق، والإيجاز وحسن الاختصار، وانخفاض الصّوت، وأن يخرج الظّالم كلامه مخرج لفظ المظلوم:
نعم، وحتّى يترك اللّحن بحجّته بعد، ويخلّف الدّاهية كثيرا من أدبه، ويغضّ من محاسن منطقه، التماسا لمواساة خصمه في ضعف الحيلة، والتشبّه به في قلّة الفطنة.
نعم، وحتّى يكتب كتاب سعاية ومحل وإغراق وتحدّ، فيلحن في إعرابه، ويستخف في ألفاظه، ويتجنّب القصد، ويهرب من اللّفظ المعجب ليخفي مكان حذقه، ويستر موضع رفقه، حتّى لا يحترس منه الخصم، ولا يتحفّظ منه صاحب الحكم، بعد أن لا يضرّ بعين معناه، ولا يقصّر في الإفصاح عن تفسير مغزاه، وهذا هو الموضع الذي يكون العيّ فيه أبين، وذو الغباوة أفطن، والرديّ أجود، والأنوك أحزم، والمضيّع أحكم. إذ كان غرضه الذي إيّاه يرمي، وغايته التي إليها يجري، الانتفاع بالمعنى المتخيّر دون المباهاة باللّفظ، وإنّما كان غايته إيصال المعنى إلى القلب دون نصيب السّمع من اللفظ المونق أو المعنى المتخيّر، بل ربّما لم يرض باللّفظ السّليم حتّى يسقمه ليقع العجز موقع القوّة، ويعرض العيّ في محلّ البلاغة. إذا كان حقّ ذلك المكان اللّفظ الدّون، والمعنى الغفل.
هذا إذا كان صاحب القصّة ومؤلّف لفظ المحل والسّعاية، ممّن يتصرّف قلمه، ويعلّل لسانه، ويلتزق في مذاهبه، ويكون في سعة وحلّ لأن يحطّ نفسه إلى طبقة الذّلّ وهو عزيز، ومحلّ العيّ وهو بليغ، ويتحوّل في هيئة المظلوم وهو ظالم، ويمكنه تصوير الباطل في صورة الحقّ، وستر العيوب بزخرف القول، وإذا شاء طفا، وإذا شاء رسب، وإذا شاء أخرجه غفلا صحيحا.
وما أكثر من لا يحسن إلّا الجيّد، فإن طلب الردىّ جاوزه. كما أنّه ما أكثر من لا يستطيع إلا الردىّ، فإن طلب الجيّد قصّر عنه.
وليس كلّ بليغ يكون بذلك الطّباع، وميسّر الأداة وموسّعا عليه في تصريف اللّسان، وممنونا عليه في تحويل القلم.
وما أكثر من البصراء من يحكي العميان، ويحوّل لسانه إلى صورة لفظ الفأفاء بما لا يبلغه الفأفاء ولا يحسنه التّمتام. وقد نجد من هو أبسط لسانا وأبلغ قلما، لا يستطيع مجاوزة ما يشركه، والخروج مما قصّر عنه.
فصل منه: ولولا الحدود المحصّلة والأقسام المعدّلة، لكانت الأمور سدى، والتّدابير مهملة، ولكانت عورة الحكيم بادية، ولاختلطت السافلة بالعالية.









مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید