المنشورات

لا خير في صاحب لا يساعد صاحبه اذا خلصت المودة

وأنا أقول بعد هذا كلّه: لو لم أضمر لكم محبّة قديمة، ولم أضر بكم بشفيع من المشاكلة، ولا سبب الأديب إلى الأديب، ولم يكن عليّ قبول، ولا عليّ حلاوة عند المحصول، ولم أكن إلّا رجلا من عرض المعارف، ومن جمهور الأتباع- لكان في إحسانكم إلينا، وإنعامكم علينا، دليل على أنا قد أخلصنا المحبّة، وأصفينا لكم المودّة.
وإذا عرفتم ذلك بالدليل النّيّر الذي أنتم سببه، والبرهان الواضح الذي إليكم مرجعه، لم يكن لنا عند الناس إلّا توقّع ثمرة الحبّ، ونتيجة جميل الرّأي، وانتظار ما عليه مجازاة القلوب.
وبقدر الإنعام تجود النّفوس بالمودّة، وبقدر المودّة تنطلق الألسن بالمدحة.
وهذه الوسيلة أكثر الوسائل وأقواها في نفسي: أنّي لم أصل بي بمحّرم غمر ولا بمبخّل غفل، ولا بضيّق العطن حديث الغنى ولا بزمر المروّة مستنبط الثّرى، بل وصلته بحمّال أثقال ومقارع أبطال، وبمن ولد في اليسر وربي فيه، وجرى منه على عرق ونزع إليه.
فصل منه: ولا خير في سمين لا يحتمل هزال أخيه، وصحيح لا يجبر كسر صاحبه.
فصل منه: وقد تنقسم المودّة إلى ثلاث منازل:
منها: ما يكون على اهتزاز الأريحيّة وطبع الحرّيّة.
ومنها: ما يكون على قدر فرط وسائل الفاقة.
ومنها: ما يحسن موقعه على قدر طباع الحرص وجشع النّفس.
فأرفعها منازل حبّ المشغوف شكر النّعمة. وهو الذي يدوم شكره، ويبقى على الأيام ودّه. والثاني هو الذي إنّما اشتدّ حبّه على قدر موضع المال من قلب الحريص الجشع، واللّئيم الطّمع. فهذا الذي لا يشكر، وإن شكر لم يشكر إلّا ليستزيد، ولم يمدح إلّا ليستمدّ. وعلى أنّه لا يأتي الحمد إلّا زحفا، ولا يفعله إلّا تكلّفا.
وأنا أسأل الله الذي قسم له أفضل الحظوظ في الإنعام، أن يقسم لنا أفضل الحظوظ في الشّكر. وما غاية قولنا هذا ومدار أمرنا إلّا على طاعة توجب الدّعاء، وحرّيّة توجب الثّناء، شاكرين كنّا أو منعمين، وراجين كنّا أو مرجويّن.
ومن صرف الله حاجته إلى الكرام، وعدل به عن اللّئام فلا يعدّنّ نفسه في الرّاغبين ولا في الطّالبين المؤمّلين، لأنّ من لم يجرع مرارة المطال، ولم يمدّ للرّحيل التّسويف، ويقطع عنقه بطول الانتظار، ويحمل مكروه ذلّ السؤال، ويحمل على طمع يحثّه يأس، كان خارجا من حدود المؤمّلين.
ومن استولى على طمعه الثّقة بالإنجاز، وعلى طلبته اليقين بسرعة الظّفر، وعلى ظفره الجزيل من الإفضال، وعلى إفضاله العلم بقلّة التثريب، وبالسّلامة من التّنغيص بالتماس الشكر، وبالبكور وبالرّواح وبالخضوع إذا دخل، والاستكانة إذا جلس. ثم مع ذلك لم يكن ما أنعم به عليه ثوابا لسالف يد، ولا تعويضا من كدّ، كانت النعمة محضة خالصة، ومهذّبة صافية، وهي نعمتكم التي ابتدأتمونا بها.
ولا تكون النّعمة سابغة ولا الأيدي شاملة، ولا السّتر كثيفا ذيّالا، وكثير العرض مطبقا، ودون الفقر حاجزا، وعلى الغنى ملتحفا، حتّى يخرج من عندكم، ثم يحتسب إلى شاكر حرّ.









مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید