المنشورات
مزايا ابي الفرج
فصل منها: وأنتم قوم تقدّمتم بابتناء المكارم في حال المهلة، وأخذتم لأنفسكم فيها بالثّقة على مقادير ما مكّنتم الأواخيّ، ومددتم الأطناب، وثبتتم القواعد. ولذلك قال الأوّل:
عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسوّد من يسود
وأبو الفرج- أعزّه الله- فتى العسكرين، وأديب المصرين. جمع أريحيّة الشباب، ونجابة الكهول، ومحبّة السّادة، وبهاء القادة وأخلاق الأدباء، ورشاقة عقول الكتّاب والتّغلغل إلى دقائق الصّواب، والحلاوة في الصّدور، والمهابة في العيون، والتقدّم في الصّناعة، والسّبق عند المحاورة، شقيق أبيه وشبه جدّه، حذو النّعل بالنّعل، والقذّة بالقذّة لم يتأخّر عنهما إلّا فيما لا يجوز أن يتقدّمهما فيه، ولم يقصّر عن شأوهما إلّا بقدر ما قصّرا عن سنخهما وهم وإن قصّروا عن مدى آبائهم، وعن غايات أوائلهم، فلم يقصّروا عن جلّة الرّؤساء، وأهل السّوابق من الكبراء، ولست ترى تاليهم إلّا سابقا، ومصلّيهم إلّا للغاية مجاوزا. ليس فيهم سكّيت ولا مبهور ولا منقطع، قد نقّحت أعراقهم من الإقراف والهجنة، ومن الشّوب ولؤم العجمة.
ومتى عاينت أبا الفرج وكماله، ورأيت ديباجته وجماله، علمت أنّه لم يكن في ضرائبهم وقديم نجلهم، خارجيّ النّسب، ولا مجهول المركّب، ولا بهيم مصمت، ولا كثير الأوضاح مغرب، بل لا ترى إلّا كلّ أغرّ محجّل، وكل ضخم المحزم هيكل.
إنّي لست أخبر عن الموتى ولا استشهد الغيب، ولا أستدلّ بالمختلف فيه ولا الغامض الذي تعظم المؤونة في تعرّفه، والشّاهد لقولي يلوح في وجوههم، والبرهان على دعواي ظاهر في شمائلهم، والأخبار مستفيضة، والشّهود متعاونة.
وأنت حين ترى عتق تلك الدّيباجة، ورونق ذلك المنظر، علمت أنّ التالد هو قياد هذا الطّارف.
أمّا أنا فلم أر لأبي الفرج- أدام الله كرامته- ذامّا ولا شانئا ولا عائبا ولا هاجيا، بل لم أجد مادحا قطّ إلّا ومن سمع تسابق إلى تلك المعاني، ولا رأيت واصفا له قطّ إلّا وكلّ من حضر يهشّ له ويرتاح لقوله. قال الطّرمّاح:
هل المجد إلّا السّودد العود والنّدى ... ورأب الثّأى والصّبر عند المواطن
ولكن هل المجد إلّا كرم الأرومة والحسب وبعد الهمّة، وكثرة الأدب، والثّبات على العهد إذا زلّت الأقدام، وتوكيد العقد إذا انحلّت معاقد الكرام، وإلّا التّواضع عند حدوث النّعمة، واحتمال كلّ العثرة، والنّفاذ في الكتابة، والإشراف على الصّناعة.
والكتاب هو القطب الذي عليه مدار علم ما في العالم وآداب الملوك، وتلخيص الألفاظ، والغوص على المعاني السّداد، والتخلّص الى إظهار ما في الضّمائر بأسهل القول، والتمييز بين الحجّة والشّبهة وبين المفرد والمشترك، وبين المقصور والمبسوط، وبين ما يحتمل التأويل ممّا لا يحتمله، وبين السّليم والمعتلّ.
فبارك الله لهم فيما أعطاهم ورزقهم الشّكر على ما خوّلهم، وجعل ذلك موصولا بالسّلامة، وبما خطّ لهم من السّعادة، إنّه سميع قريب، فعّال لما يريد.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
30 مايو 2024
تعليقات (0)