المنشورات

مساوىء المزاح

واعلم جعلت فداك أني لم أرد بمزاحك إلا ضحك سنك، ولا كانت غايتي فيك إلا لأنفق عندك، وقد كنت خفت ألا أكون وقفت على حده وأشفقت من المجاوزة لقدره. والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان. وهو باب متى فتحه فاتح وطرّق له مطرّق لم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه، ولا يخرج منه بقدر ما كان قدم من نفسه، لأنه باب أصل بنائه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف، ومن شأنه التزيد وأن يكون صاحبه قليل التحفظ، ولم نر شيئا أبعد من شر ولا أطول له صحبة ولا أشد خلافا ولا أكثر خلطا من الجد والمزاح والمناظرة والمراء. قال القعقاع بن شور: ليس لمزّاح مروءة ولا لممار خلة.
وقال معاوية: المزاح هو الشنار الأصغر. وقال الحسن بن حي: المزاح استدراج من الشيطان واختداع من الهوى. وعاب عمر بعض العظماء فقال: ذلك رجل فيه دعابة. وقال الشاعر: «وجد القول يقدمه المزاح» وقال الآخر «رب كبير ساقة صغير» وقال الآخر «رب جد ساقه اللعب» . 
فان كنت لم أقصر عن الغاية، ولم أتجاوز حد النهاية، فبما أعرف من يمن مكالمتك وبركة مكاتبتك، ومن حسن تقويمك وجودة تثقيفك. وإن كنت قد أخطأت الطريق، وجاوزت حد المقدار، فما كان ذلك عن جهل بفضلك ولا إنكار لحقك، ولكن حدود الأشياء إذا خفيت ومقاديرها إذا أشكلت، ولم يكن مع الناظر فيها مثل تمامك، ولا مع المتكلف لها مثل كمالك، دخل عليه من الخلل بقدر عجزه، وسلم منه بقدر نفاذه، نعم ولو كان من العلماء الموصوفين والأدباء المذكورين.
ومن المزاح جعلت فداك باب مكر وجنس خدع يتكل المرء في إساءته إلى جليسه وإسماعه لصديقه على أن يقول: مزحت، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عبثت، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخلق، ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيق العطن. وبعد فمتى أعدت النفس عذرا كانت إلى القبيح أسرع ومتى لم تجده كانت عنه أبطأ. ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيرا ممن تمازحه يضحك وإن كنت قد أغضبته، ولا يقطع مزاحك وإن كنت قد أوجعته، فإن حقد ففي الحقد الداء، وإن عجل فذلك البلاء.
فان قلت: فما أدخلك في شيء هذا سبيله وهكذا جوهره وطريقه؟
قلت: لأني حين أمنت عقاب الإساءة ووثقت بثواب الإحسان وعلمت أنك لا تقص إلا على العمد، ولا تعذب إلا على القصد، صار الأمن سائقا والأمل قائدا. وأي عمل أردّ وأي متجر أربح مما جمع السلامة والغنيمة والأمن والمثوبة. ولو كان هذا ذنبا لكنت شريكي فيه، ولو كان تقصيرا لكنت سببي إليه، لأن دوام التغافل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يورث الإغفال، والعفو المتتابع والبشر الدائم يؤمنان من المكافأة ويذهبان بالتحفظ. ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان رضي الله عنه: عمر كان خيرا لي منك، رهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني. فإن كنت اجترأت عليك فلم أجتريء عليك إلا بك، وإن كنت أخطأت فلم أخطيء عليك إلا لك، لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب في قلة التحفظ وداعية إلى ترك التحرز.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید