المنشورات

طلب العفو من احمد بن عبد الوهاب على مزاح الجاحظ وسخريته

وبعد، فمن وهب الكبير فكيف يقف عند الصغير، ومن لم يزل يعفو عن العمد كيف يعاقب على السهو؟ ولو كان عظم قدري هو الذي عظم ذنبي لكان عظم قدرك هو الذي شفع لي، ولو استحققت عقابك باقدامي عليك مع خوفي لك لاستوجبت عفوك عن إقدامي عليك بحسن ظني بك. على أني متى أوجبت لك العفو فقد أوجبت لك الفضل، ومتى أضفت إليك العقاب فقد وصفتك بالانصاف، ولا أعلم حال الفضل إلا أشرف من حال العدل، ولا الحال التي توجب لك الشكر إلا أرفع من الحال التي توجب لك الصبر. وإن كنت لا تهب عقابي لحرمتي فهبه لأياديك عندي، فان النعمة تشفع في النعمة، فإن لم تفعل ذلك للحرمة فافعله لحسن الأحدوثة، وإن لم تفعل ذلك لحسن الأحدوثة فعد إلى حسن العادة وإن لم تفعله لحسن العادة فأت ما أنت أهله. واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قضى لي عليك ومتى ارتفعنا إلى عقلك حسن العفو عني عندك. وفصل ما بيننا وبينك وفرق ما بين أقدارنا وقدرك انا نسيء وتغفر، ونذنب وتستر، ونعوج وتقوم، ونجهل وتحلم، وإن عليك الانعام وعلينا الشكر، ومن صفاتك أن تفعل ومن صفاتنا أن نصف، فإذا فعلت ما تقدر عليه من العقاب كنت كمن فعل ما يقدر عليه من التعرض، وصرت ترغب عن الشكر كما رغبنا عن السلم، وصار التعرض لعفوك بالأمن باطلا، والتعرض لعقابك بالخوف حقا، ورغبت عن النبل والبهاء وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقدا أو يظهر القدرة أو يجب أن يذكر بالصولة. ولم نجدهم أبقاك الله يحمدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ولا يذمون العجز إلا لما يفوت به من إتيان الجميل. وأنى لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله، وهل عندك إلا ما في طبعك، وكيف لك بخلاف عادتك، ولم تستكره نفسك على المكافأة وطباعها الصفح، ولم تكدّها بالمنافسة ومذهبها المسامحة؟! فسبحان من جعل أخلاقك وفق أعراقك وقولك وفق عملك، ومن جعل ظنك أكثر من يقيننا، وفراستك أثبت من عياننا، وعفوك أرجح من جهدنا، وبداهتك أجود من تفكرنا، وفعلك أرفع من وصفنا، وغيبتك أهيب من حضور السادة، وعتبك أشد من عقاب الظلمة. وسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصرّ، وتتغافل عن المباديء، وتصفح عن المتهاون، حتى إذا صرت إلى من ذنبه نسيان وتوبته إخلاص وهفوته بكر وشفيعه الحرمة، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، ولا الأنعام إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، لم يقصر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك، ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك، صرت تتوعد بالصرم وهو دليل كل بلية، وتستعمل الإعراض وهو قائد كل هلكة. وقد علمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من العقوبة، وأن منعك إذا منعت في وزن إعطائك إذا أعطيت، وأن عقابك على حسب ثوابك، وأن جزعي من حرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأن شين غضبك كزين رضاك، وأن موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، ومالي اليوم عمل أنا إليه أسكن ولا شفيع أنا به أوثق من شدة جزعي من عتبك وإفراط هلعي من خوفك، ولست ممن إذا جاد بالصفح ومنّ بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة وإلا النجاة من الهلكة، بل تشفع ذلك بالمراتب الرفيعة والعطايا الجزيلة والعز في العشيرة والهيبة في الخاصة والعامة، مع طيب الذكر وشرف العقب ومحبة الناس.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ


تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید