المنشورات

جمال احمد بن عبد الوهاب المعكوس

ولربما رأيت الرجل حسنا جميلا وحلوا مليحا وعتيقا رشيقا وفخما نبيلا ثم لا يكون موزون الأعضاء ولا مقدور الأجزاء، وقد تكون أيضا الأقدار متساوية غير متقاربة ولا متفاوتة، ويكون قصدا ومقدارا عدلا، وإن كانت هناك دقائق خفية لا يراها إلا الألمعي، ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي. فأما الوزن المحقق والتعديل المصحح والتركيب الذي لا يفضحه التفرس ولا يحصره التعنت ولا يتعلل جاذبه ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خصصت به دون الأنام ودام لك على الايام. كذا الحسن إذا كان حرا مرسلا وعتيقا مطبقا لا يتحكم عليه الدهر ولا يذيله الزمان ولا يحتاج إلى تعليق التمائم ولا إلى الصون والسكن ولا إلى المناقش والكحل، ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سهل في العيون تسهيلا وحبب إلى القلوب تحبيبا وقرب إلى النفوس تقريبا، حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء وجرى في العروق وتمشى في العظم بحيث لا يبلغه السم ولا الوهم ولا السرور الشديد ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المزية الظاهرة والفضيلة البينة. ولو لم يكن لك إلا أنا لا نستطيع أن نقول في الجملة وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، ولهو أحسن من يوم الحلبة، وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق؛ كأن عنقه إبربق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن وجهه ماوية، وكأن بطنه قبطية، وكأن ساقه بردية، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبه خط بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد وكأن فاه خاتم، وكأن جبينه هلال، ولهو أطهر من الماء وأرق طباعا من الهواء، ولهو أمضى من السيل وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النير والدليل البين. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والنهاية في كل شكل. وأما قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدتّه نظرا
وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها وعجائب صنعة لم نقف عليها، وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء. فان ذلك معنى مسروق مني في وصفك ومأخوذ من كتبي في مدحك. والجملة التي تنفي الجدال وتقطع القيل والقال أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة، ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك إلا ذكرت النار.
والعجب أيها السامع أني مقصر، وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط، وهو رجل طينته حرة وعرقه كريم ومغرسه طيب ومنشؤه محمود، غذي بالنعمة وعاش في الغبطة وأرهفه التأديب ولطفه طول التفكير وخامره الأدب وجرى فيه ماء الحياء وأحكمته التجارب وعرف العواقب، فأفعاله كأخلاقه، وأخلاقه كأعراقه، وعادته كطبيعته وآخره كأوله. تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف ويرغب عن التجوز وينبل عن ترك الإنصاف، ولا يمتنع عليه معرفة المبهم ولا يلتحج باستبانة المشكل، يتخير من الألفاظ أرقها مخرجا ومن المعاني أدقها مسلكا، وأحسنها قبولا، وأجودها وقوعا وأتمها إطماعا، بأقوى الكلام وأوجزه وأعذبه وأحسنه، يقلل عدد حروفه ويكثر عدد معانيه. ومن الفعل بعد ذلك أكمله تحقيقا إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه، مع تمكنه وعقله وسعة صدره. وبعد [نظره] ولا يعرف الشك إلا في غيره ولا العي إلا سماعا. فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وتشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تثقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقي بك، فكم من كبد حرّى منضجة، ومصدوعة مفرثة، وكم من حشا خافق، وقلب هائم، وكم عين ساهرة وأخرى جامدة وأخرى باكية، وكم عبرى مولهة، وفتاة معذبة، قد أقرح قلبها الحزن وأجمد عينها الكمد، قد استبدلت بالحلي العطلة، وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المره، فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد طرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساحر، وبعد أن كانت نارا تتوقد، وشعلة تتوهج؟
وليس حسنك أبقاك الله الحسن الذي تبقى معه توبة، أو تصح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه للتثبت، أو يتسع للتخير، أو ينهنهه زجر، أو يهذبه خوف. هو أعزك الله شيء ينقض العادة، ويفسخ المنّة، ويعجل عن الرويّة، ويطرح بالعرا، وتنسى معه العواقب، ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر بن الحجاج، ولركبك بأعظم مما ركب به جعدة السلمي، بل لدعاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما، والغيظ عليك إلى الرحمة لهما. فمن كان عيب حسنه الإفراط عليه من جهة الزيادة، كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم. فلا تعجب إن كنت نهاية الهمة وغاية الأمنية، فإن حسن الوجه إذا وافق حسن القوام، وجودة الرأي، وكثرة العلم، وسعة الخلق، والمغرس الطيب، والنصاب الكريم، والطرف الناصع، واللسان البين، والنعمة البهجة والمخرج السهل، والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة، والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهل في المحاورة، والهذ عند المناقلة والبديه البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والايجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الاطناب، يفل الحز، ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحق بالكمال والحمد. والتاج بهيّ، وهو على رأس الملك أبهى، والياقوت كريم حسن، وهو على جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن، وهو من فم المنشد أحسن، وإن كان قول المنشد فريضة من نجثه ومختبره فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.
وما ندري في أي الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أم إذا جمعناك، وإذا ذكرنا كلك أم إذا تأملنا بعضك؟ فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، كما أصبحنا وما ندري: الكأس في يدك احسن ام القلم ام الرمح الذي تحمله، ام المخصرة ام العنان الذي تمسكه، ام السوط الذي تعلقه، وكما اصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأيك أحسن وايها اجمل وأشكل اللمة أم مخطّ اللحية، أم الإكليل أم العصابة أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة! فأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، انها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم. أما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوه به أحسن، وأيّ الذي يبدأ به أجمل: الحديث، أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف. وعلى أننا ما ندري أي السنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى، أقلمك أم خطك، أم لفظك، أم إشارتك، أم عقدك. وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد؟ وأنت في ذلك فوقهم والحمد لله، وواحدهم وأعيذك بالله، وأنت تجوز الغاية، وتفوق النهاية.
وقد علمنا أن القمر هو الذي تضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال وهو مع ذلك يبدو ضيئلا نضوا، ويظهر معوجا شختا وأنت أبدا قمر بدر وفخم غمر. ثم مع ذلك يحترق في السرار ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحسا كما يكون سعدا، ويكون نفعا كما يكون ضرا، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويخمّ فيه اللحم. وأنت دائم اليمن، ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه، وعلى أنه قد محق حسنه المحاق وشانه الكلف، وليس بذي توقد واشتعال ولا خالص البياض ولا متلأليء، ويعلوه برد ويكسوه ظل الأرض. ثم لا يعتريه ذلك إلا عند كماله وليلة فخره واحتفاله، وكثيرا ما يعتريه الصفار من بخار البحار.
وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن، دري اللون، روحاني البدن. وإن احتجوا عليك بالجزر والمد، احتججت عليهم بالعلم والحلم، وبأن طاعتك اختيار واعتبار، وطاعته طباع واضطرار، وبأن له سيرة قد قصر عليها، ومنازل لا يجاوزها، ولا تمكنه البدوات، وليس في قواه فضل للتصرف، وعلى أن ضياءه مستعار من الشمس، وضياؤك عارية عند جميع الخلق. فكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم وما لا حس فيه. ولا زالت الأرض بك مشرقة، والدنيا معمورة، ومجالس الخير مأهولة، ونسيم الهواء طببا، وتراب الأرض عبقا. إن تفتيت فالرشاقة والملح، وإن تمسكنت فالرهبانية والأخلاص، وإن ترزنت «فثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل» .
وطباعك جعلت فداك طباع الخمر إلا أنك حلال كلك، وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حويت خصال الياقوت إلا ما زادك الله عليه، وأخذت خصال المشتري إلا ما فضلك الله به، وجمعت خلال الدر إلا ما خصصت به دونه. فلك من كل شيء صفوته ولبابه وشرفه وبهاؤه. وهل يضر القمر نباح الكلب، وهل يزعزع النخلة سقوط البعوضة عليها.؟











مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید