المنشورات

اسئلة على المعرفة وطرقها

وأنا جعلت فداك أعلم إنّي أسمع ولا أعقل كيفية السمع، وأعلم أني أبصر ولا أعقل كيفية البصر، ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه، كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه، أم معدن العقل القلب دون الدماغ أو لعلهما موصولان غير مقطوعين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس. واعتل قوم بالحس وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والإضطراب وغير ذلك. فكيف القول فيه وعلام عزمت منه. وكيف صار الناظر يبتدي من جهة وإن كان يعرف الله فكيف عرفه، أباضطرار أم باكتساب. وكيف جهل سليمان موضع ملكة سبأ، وهو ملك وشأنه عظيم والجن له مسخرة والطير له برد والريح له أداة، وكيف جهل يوسف مكان أبيه وحاله في الحزن عليه حاله وهو ملك نبي، وكيف جهل أبوه مكانه وهو نبي، وليس أنبه من نبي، وملك هذا بالشام والآخر بمصر. وما تقول في أهل التيه وعن ترددهم أربعين عاما في مكان واحد وعقولهم معهم، وإنما يجولون ليقفوا على الطريق، فكيف أضل الجميع الطريق مع ارتفاع الذكر وشدة الطلب. وخبرني عن كلام عيسى في بطن أمه ثم في المهد، وعن عقل يحيى في حال الصبا، أكانا في حالهما يتعقلان ما لا يعلمان أم ينطقان بما يعلمان؟ وكيف علما، أبتجربة واستنباط وعن تمام أداة وكمال آلة، أم من طريق الإلهام والإخراج من العادة.
وقد تعجب ناس من إطالتي ومن كثرة مسألتي، وتعجبي من تعجبهم أشد والذي كان من إنكارهم أعظم ولو رغبوا في العلم رغبتي ورأوا فيه مثل رأيي وكانوا قرأوا كتابي إليك في شيبتي وأيام شباب رغبتي لاستقلوا من ذلك ما استكثروا ولا ستقصروا منه ما استطالوا. فإن أذنت لي أظهرته، وإن تجد علي أعلنته.
وسنقول: ما دعاك إلى التنويه بذكري وتعريف الناس مكاني، وقد تعرف حشمتي وانقباضي ونفوري واستيحاشي! ولولا أنك جعلت فداك مسؤول في كل زمان والغاية في كل دهر لما تفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب. ولكنك قد كنت أذنت في مثلها لهرمس، ثم لافلاطون، ثم لأرسطاطاليس، ثم أحببت معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الاسواري، فتربية كفك والناشي تحت جناحك أحق بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرص وبه أعنى.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید