المنشورات

حاجة العقل الى الشحذ

والعقل حفظك الله أطول رقدة من العين، وأحوج الى الشحذ من السيف، وأفقر الى التعهد، وأسرع الى التغير، وأدواؤه أقتل، وأطباؤه أقل، وعلاجه أعضل. فمن تداركه قبل التفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يدرك شيئا من حاجته. ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر ثم معرفة وجوه المطالب، ثم في الخواطر الغث والسمين، والفاسد والصحيح والمسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يفهم، والجليل الذي لا يلقى الفهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التباين والتمييز. والمطالب طرق، ولدرك الحقائق أبواب، فمن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالا ممن لم يخطئها ولم ينتظر. وعلى قدر صحة العقل يصح الخاطر، وعلى قدر التفرغ يكون التنبه- هذا جماع هذا الباب وجمهوره وأقسامه وجملته. ثم من أنفع أسبابه الحفظ لما قد حصل والتقييد لما ورد والانتظار لما يرد أن لا تخلي نفسك من الفكرة إلا بقدر جمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فضل ما بين طلب العلم للمنافسة والشهرة وبين طلبه للرغبة والرهبة، وأن تعلم أن العلم لا يجود بمكنونه ولا يسمح بسره ومخزونه إلا لمن رغب فيه لكرم عنصره، وفضله لحقيقة جوهره، ورفعه عن التكسب وصانه عن التبذل، وأنه لا يعطيك خالص الحكمة حتى تعطيه خالص المحبة. وكان يقال: من شاب شيب له وخصلة ينبغي ان تعرفها وتصطنعها وتذكرها وتقف عندها وهي ان تبدأ من العلوم بالمهم، وان تختار من صنوفه ما انت له انشط والطبيعة به اعنى، فإن القبول على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدر العناية. ثم من أفضل أسبابه تخليص أخلاطه وتمييز أجناسه والمعرفة باقداره حتى تعطي كل معنى حقه من التقريب والرفعة، وقسطه من الإبعاد والضعة وحتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين وبالخيطر النفيس، ولا تلقى إلا الغث الخسيس والحقير السخيف، فانك متى كنت كذلك لم تميز فضل ما بين النظرين ولا فرق ما بين النعتين. والكيس كل الكيس والحذق كل الحذق أن لا تعجل ولا تبطيء وأن تعلم أن السرعة غير العجلة، وأن تعلم أن الأناة خلاف الإبطاء، وأن تكون على يقين من درك الحق إذا وفيته شرطه، وعلى ثقة من ثواب النظر إذا أعطيته حقه.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید