المنشورات

خطبة علي بن أبي طالب حين بلغه قتل عامله حسان بن حسان

وتحدث ابن عائشة في إسناد ذكره أن علياً رحمه الله انتهى إليه أن خيلاً لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملاً له يقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضباً يجر ثوبة حتى انتهى1 إلى النخيلة، واتبعه الناس، فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيما الخسف، وديث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهرياً، حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخوغامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالاً منهمكثيراً ونساءً والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعثهما ثم إنصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كلما. فلو أن امرأ مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي فيه ملوماً، بل كان عندي به جديراً. ياعجباً كل العجب [عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان] 2 من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضاً ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون. إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء قلتم: هذا أوان قر وصر، ةإن قلت لكم: إزوهم في الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ، إنظرنا ينصرم الحر عنا. فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فإنتم من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال ولا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لارأي له في الحرب. لله درهم ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراساً فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع يقولها ثلاثاً فقام إليه رجل ومعه أخوه1، فقال: ياأمير المؤمنين، أنا وأخي هذا كما قال الله عز وجل: {رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} 2 فمرنا بأمرك، فوالله لننتهين إليه، ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا، وشوك القتاد. فدعا لهما بخير، ثم قال: وأين تقعان مما أريد ثم نزل.
قال أبو العباس: قوله: "سيما الخسف"، قال: هكذا حدثوناه، وأظنه"سيم الخسف" يا هذا، من قول الله عز وجل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 3 ومعنى قوله: سيما الخسف تأويله علامة، هذا أصل ذا، قال الله عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 4، وقال عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} 5 
وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: {مُسَوِّمِينَ} 1" قال: معلمين2 واشتقاقه من السيما التي ذكرنا. ومن قال: {مُسَوِّمِينَ} ، فإنما أراد مرسلين: من الإبل السائمة: أي المرسلة في مراعيها، وإنما أخذ هذا من التفسير. قال المفسرون في قوله تعالى: " {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} 3، القولين جميعاً، مع العلامة والإرسال، وأما في قوله عز وجل: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} 4 فلم يقولوا فيه إلا قولاً واحداً، قالوا: "معلمة"، وكان عليها أمثال الخواتيم، ومن قال: "سيما" قصر. ويقال في هذا المعنى: سيمياء، ممدود، قال الشاعر5:
غلام رماه الله بالحسن يافعاً ... له سيمياء لا تشق على البصر6
وقوله رحمه الله: "وقتلو حسان بن حسان"، من أخذ حساناً من الحسن صرفه لأن وزنه فعال فالنون منه في موضع الدال من حماد، ومن أخذه من الحس لم يصرفه لأنه حينئذ فعلان فلا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، لأنه ليست له" فعلى "فهو بمنزلة سعدان وسرحان.
وقوله: "ديث بالصغار"، تأويله: ذلل، يقال للبعير إذا ذللته الرياضة: بعير مديث، أي مذلل.
وقوله: "في عقر دارهم"، أي في أصل دارهم، والعقر: الأصل، ومن ثم قيل: لفلان عقار، أي أصل مال، ويروى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مال قمن ألا يبارك [له] 7 فيه". وقوله: قمن يريد: خليق، ويقال أيضاً: قمين وقمن.
[قال أبو الحسن: من قال: قمن لم يثن ولم يجمع، ومن قال: قمن وقمين ثنى وجمع] 1.
ويقال للرجل إذا إتخذ ضيعة، أو داراً: تأثل فلان، أي إتخذ أصل مال.
وقوله: "وتواكلتم": إنما هو مشتق من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي أنت2 أي: لم يتوله واحد منا دون صاحبه، ولكن أحال به كل واحد منا على الأخر، ومن ذالك قول الحطيئة:
فلأيا قصرت الطرف عنهم بجسرةٍ ... أمون إذا واكلتها لا تواكل3
وقوله: "واتخذتموه ورائكم ظهرياً"، أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، يقال4 في المثل: "لا تجعل حاجتي منك بظهرٍ"، أي لا تطرحها غير ناظر إليها.
وقوله: "حتى شنت عليكم الغارات"، يقول: صبت، يقال: شننت الماء على رأسه، أي صببته، وشننت الشراب في الإناء أي صببته، ومن كلام العرب: فلما لقي فلان فلانا شنه السيف، أي صبه عليه صبا.
وقوله: "هذا أخو غامد، فهو رجل مشهور من أصحاب معاوية، من بني غامد بن نصر بن الأزد بن الغوث، وفي هذه القبيلة يقول القائل5:
ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد
تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد
فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا ًلها حالب قاعد
وقوله: "فتنتزع أحجالهما"، يعنى الخلاخيل، واحدها حجل، ومن هذا قيل للدابة: محجل، ويقال للقيد: حجل، لأنه يقع في ذلك الموضع، قال جرير،يعير الفرزدق حين قيد فرسه، وأقسم ألايحلها حتى يحفظ القرآن، فلما هاجى جرير البعيث هجا الفرزدق1 جريراً معونةً للبعيث، وذبا عن عشيرته، فقال جرير:
ولما اتقى القين العراقي باسته ... فرغت إلى العبد المقيد في الحجل2
معنى فرغت عمدت، قال الله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} 3 أي سنعمد4. وقوله: "ورعثهما" الواحدة رعثة، وجمعها الجمع رعث وهي الشنوف.
وقوله: "ثم انصرفوا موفورين" من الوفر، أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال، يقال موفور، وفلان ذو وفر: أي ذو مال، ويكون موفوراً في بدنه إذا ذكر ما أصيب به غيره في بدنه، قال حاتم الطائي:
وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد المال أمسى له وفر
ويروى:" كان له وفر".
وقوله: "لم يكلم أحد منهم كلماً". ويقول: لم يخدش أحد منهم خدشاً، وكل جرح صغر أو كبر فهو كلم، قال جرير:
تواصلت الأقوام من تكرمها قريش ... برد الخيل دامية الكلوم
وقوله: "مات من دون هذا أسفاً"، يقول: تحسراً، فهذا موضع ذا و"قد"5 يكون الأسف الغضب، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 6 والأسيف يكون الأجير ويكون الأسير فقد قيل في بيت الأعشى:
أرى رجلا ًمنهم أسيفاً كأنما ... يضم إلى كشحيه كفاً مخضبا
المشهور أنه من التأسف لقطع يده، وقيل: بل هو أسير قد كبلت يده، ويقال: قد جرحها الغل، والقول الأول هو المجتمع عليه، ويقال في معنى أسيف عسيف أيضاً.
وقوله:" من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم"، يقول: من تعاونهم وتظاهرهم.
وقوله: "وفشلكم عن حقكم"، يقال: فشل فلان عن كذا و"كذا"1 إذا هابه فنكل عنه وامتنع من المضي فيه. وقوله:" قلتم هذا أوان فر وصر"،فالصر شدة البرد, قال الله عز وجل {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} 2.
وقوله: هذه حمارة القيظ"، فالقيظ الصيف، وحمارته: اشتداد حره واحتدامه، وحمارة مما لا يعوز أن يحتج عليه ببيت شعر، لأن"كل"3 ما كان فيه من الحروف التقاء ساكنين لا يقع في وزن إلا في ضرب" منه"4 يقال له المتقارب،"فإنه جوز فيه على بعد التقاء الساكنين"5وهو قوله:
فذاك القصاص وكان التقا ... ص فرضا وحتماً على المسلمينا
ولو قال: "وكان قصاص فرضاً وحتماً" كان أجود وأحسن، ولكن قد أجازوا هذا في هذه العروض، ولا نظير له في غيرها من الأعاريض.
وقوله: "ويا طغام الأحلام" فمجاز الطغام عند العرب من لا عقل له، ولا معرفة عنده، وكانوا يقولون: طغام أهل الشأم كما قال:
فما فضل اللبيب على الطغام6
وقوله: "ويا عقول ربات الحجال" ينسبهم إلى ضعف النساء وهو السائر في كلام العرب. وقال الله تعالى يذكر البنات {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 1.














مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید