المنشورات

جميل بن معمر في النسيب

وقال جميل بن معمرٍ:
ما صاءب من نائلٍ قذفت به ... يدٌ، وممر العقدتين وثيق
له من خوافي النسر حم نظائرٌ ... ونصل كنصل الزاعبي فتيق
على نبعةٍ زوراء، أيما خطامها ... فمتنٌ، وأيما عدها فعتيق
بأوشك قتلاً منك يوم رميتني ... نوافذ لم تعلم لهن خروق
كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق
قوله: " ما صائب" يريد قاصداً، يقال: صاب يصوب إذا قصد، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} 1 وقد قالوا: النازل، والقصد أحكم كما قال بشر بن أبي خازم الأسدي:
تؤمل2 أن أؤوب لها بغنم ... ولم تعلم بأن السهم صابا
وقوله: "وممر العقدتين" يعني وتراً، والممر: الشديد الفتل.
وقوله: "من خوافي النسر حم نظائر" يريد ريش السهم، والحم: السود، وذلك أخلصه وأجوده، وجعلها في مقادير، لأنه أقصد للسهم، وإذا كانت الريشات بطن الواحدة منها إلى ظهر الأخرى فهو الذي يختار وهو الذي يقال له اللؤام، وإنما أخذ من قولهم: ملتئم. وإن كان ظهر الواحدة إلى ظهر الأخرى، وبطنها إلى بطن الأخرى فذلك مكروه، يقال له اللغاب.
وقوله: " كنصل الزاعبي"، شبه نصل السهم بنصل الرمح الزاعبي، وهو منسوب إلى رجل من الخزرج، يقال له زاغبٌ، كان يعمل الأسنة، هذا قول قوم. وأما الأصمعي فكان يقول: الزاغبي: الذي إذا هز فكأن كعوبه يجري بعضها في بعضٍ للينه وتثنيه، يقال مر يزعب بحمله إذا مر مراًسهلاً.
وقوله: "فتيق" يعني حاداً رقيقاً، يقال: فتيق الشفرتين، وتأويله أنه يفتق ما عمد به له. و" فعيل" يقع اسماً للفاعل، ويقع للمفعول، فأما الفاعل فمثل رحيم وعليم وحكيم وشهيد، وأما ما كان للمفعول، فنحو جريح وقتيل وصريع.
وقوله:" زوراء" يريد معوجة، وكلما كانت القوس أشد انعطافاٌ كان سهمها أمضى.
وقوله: " على نبعة"، يعني قوساً وأكرم القسي ما كان من النبغ.
وقوله: "أيما" إنما يريد "أما"، واستثقل التضعيف، فأبدل الياء من إحدى الميمين، وينشد بيت ابن أبي ربيعة:
رأت رجلا، أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأيما بالعشي فيخصر
وهذا يقع، وإنما بابه أن تكون قبل المضاعف كسرة فيما يكون على فعال، فيكرهون التضعيف والكسر، فيبدلون من المضعف الأول الياء للكسرة وذلك قولهم: دينار وقيراطٌ وديوان ما أشبه ذلك، فإن زالت الكسرة وانفصل أحد الحرفين من الآخر رجع التضعيف فقلت: دنانير وقراريط ودواوين، وكذلك إن صغرت قلت قريريط ودنينير.
وقوله:" وأيما عودها فعتيق"، يصف كرم هذه القوس وعتقها، ويحمد منها أن تترك ولحاؤها عليها بعد القطع حتى تشرب ماءه، كما قال الشماخ:
فمظعها حولين ماء لحائها ... وينظر منها أيها هو غامر
مظعها: شربها1.
وقوله: "بأوشك قتلا منك"، يقول: بأسرع، يقال: أمر وشيك أي سريع، ويقال: يوشك فلان أن يفعل كذا، أي يقارب ذلك، ويوشك يفعل، كذا يطرح "أن "كل جيد قال1:
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها
من لم يمت عبطة يمت هرماٌ ... للموت كأس فالمرء ذائقها
قال أبو الحسن: هذه أبيات أربعة وهي لرجل من الخوارج قتله الحجاج:
ما رغبة النفس في الحياة وإن ... عاشت قليلاٌ فالموت لاحقها
وأيقنت أنها تعود كما ... كان براها بالأمس خالقها
قوله: "عبطة"، أي شاباٌ، يقال: اعتبط الرجل، إذا مات شاباٌ من غير مرض، وأصل العبيط الطري من كل شيْ وقوله:
نوافذ لم تعلم لهن خروق
معنى طريف، وقد أخذه أبو حية منه فكشفه في أبيات مختارة، وهي2:
وإن دماٌ لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالراعفات اللهاذم3
ولكن لعمر الله ما طل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم
إذا هن ساقطن الحد يث كأنه ... سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
رمين فأقصدن القلوب فلم نجد ... دما مائراٌ إلا جوى في الحيازم1
قال أبو الحسن: وأول هذه الأبيات المختارة أنشدناه غيره:
وخبرك الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم2
أصد وما الصد الذي تعلمينه ... شفاءٌ لنا إلا اجتراع العلاقم
قال أبو العباس: فهذا مأخوذ من ذلك.
وقوله:
ولكن لعمر الله ما طل مسلماً
يقول: ما طل دمه، يقال: دمٌ مطلول، إذا مضى هدراً، كما قال الراجز:
بغير عقلٍ ودمٍ مطلول
وحدثني التوزي قال: قال يحيى بن يعمر لرجل نازعته امرأته عنده: آن طالبتك بثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها!
قوله: "ثمن شكرها" فإنما يعني الرضاع، والشبر: النكاح، والشكر: الفرج. وقوله: "أنشأت تطلها" أي تسعى في بطلان حقها.
وقوله:" تضهلها" أي تعطيها الشيء بعد الشيء: يقال: بئر ضهول إذا كان ماؤها يخرج من جرابها شيئاً بعد شيء، وجرابها جوانبها، وإنما يغزر ماؤها إذا خرج من قرارتها فتعظم جمتها3.
وقوله: "واضحات الملاغم" يريد العوارض، قال الفرزدق:
سقتها خروق في المسامع لم تكن ... علاطاً ولا مخبوطة في الملاغم
يقول: علم أرباب الماء لمن هي فسقاها ما سمعوه من ذكر اصحابها لعزهم ومنعتهم، ولم تحتج أن تكون بها سمةٌ.
والعلاط: وسمٌ في العنق، والخباط في الوجه.









مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید