المنشورات

صخر بن عمرو بن الشريد

وقال صخر بن عمرو بن الشريد، يعني معاوية أخاه، وكان قتله هاشم ودريد ابنا حرملة المريان من غطفان، فقيل لصخر: اهجهم، فقال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن هجاءهم إلا صوناً لنفسي عن الخنا لفعلت ثم قال:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول: ألا تهجو فوارس هاشم ... وما لي إذا أهجوهم ثم ما ليا
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا1
وتقول العرب للرجل: رواية ونسابة، فتزيد الهاء للمبالغة، وكذلك علامة وقد تلزم الهاء في الاسم فتقع للمذكر والمؤنث على لفظ واحد، نحو ربعةٍ ويفعةٍ وصرورةٍ2. وهذا كثير لا تنزع الهاء منه، فأما رواية وعلامة ونسابة فحذف الهاء جائز فيه، ولا يبلغ في المبالغة ما تبلغه الهاء.
وقوله1:
"وحلبت الأيام والدهر أضرعا"
فإنه مثلٌ، يقال للرجل المجرب للأمور: فلان قد حلب الدهر أشطره أي قد قاسى الشدة والرخاء، وتصرف في الفقر والغنى، كما قال القائل:
قد عشت في الناس أطواراً على طرقٍ ... شتى، وقاسيت فيها اللين والفظعا
كلا بلوت، فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعاً
لا يملا الهول صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
ومعنى قوله:" أشطره" فإنما يريد خلوفه.، يقال: حلبتها شطراً بعد شطرٍ.،وأصل هذا من التنصف، لأن كل خلفٍ عديلٌ لصاحبه. وللشطر وجهان في كلام العرب.، فأحدهما النصف كما ذكرنا، من ذلك قولهم: شاطرتك مالي، والوجه الآخر القصد، يقال: خذ شطر زيدٍ، أي قصده، قال الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي قصده، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 2.
قال أبو العباس: وأنشدني التوزي عن أبي عبيدة قول الشاعر:
إن العسير بها داءٌ مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
يريد ناحيتها وقصدها، والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، أي تشيله وترفعه، ومنه سمي الذنب عوسراً، أي تضرب بذنبها. ومعنى ذلك أنه ظهر من جهدها وسوء حالها ما أطيل معه النظر إليها حتى تحسر العينان. والحسير: المعيي، وفي القرآن: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 3.
وقوله:
"سقاها ذوو الأرحام سجلاً على الظما"
فالسجل في الأصل الدلو، وإنما ضربه مثلاً لما فاض عليها من ندى أقاربها، يقال للدلو- وهي مؤنثة: سجل وذنوب، وهما مذكران، والغرب مذكر وهو الدلو العظيمة، ويقال: فلان يساجل فلاناً، أي يخرج من الشرف مثل ما يخرج الآخر، وأصل المساجلة أن يستقي ساقيان، فيخرج كل واحدٍ منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمساماة. وبين ذلك الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في قوله:
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ويقال: إن الفرزدق مر بالفضل وهو يستقي، وينشد هذا الشعر، فسرا الفرزدق ثيابه عنده، ثم قال: أنا أساجلك- ثقةً منه بنسبه- فقيل له: هذا الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب. فرد الفرزدق ثيابه عليه ثم قال: ما يساجلك إلا من عض بأير أبيه. يقال: سرا ثوبه ونضا ثوبه في معنى واحد، إذا نزعه، ويقال: سرى عليه الهم إذا أتى ليلاً، وأنشد:
"سرى همي وهم المرء يسري1"
وسرى همه إذا ذهب عنه. والمواضخة مثل المساجلة، قال العجاج:
"تواضخ التقريب قلواً مخلجاً"
أي تخرج من العدو ما يخرج.، قال الله عز وجل على مخرج كلام العرب وأمثالهم {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} 2 وأصل الذنوب الدلو كما ذكرت لك.
وقال علقمة بن عبدة للحارث بن أبي شمر الغساني: "قال أبو الحسن: غير أبي العباس يقول شمرٌ، وبعضهم يقول شمرٌ "وكان أخوه أسيراً عنده، وهو شأس بن عبدة أسره في وقعة عين أباغ. [قال أبو الحسن: غيره يقول إباغ، بالكسر] في الواقعة التي كانت بينه وبين المنذر بن ماء السماء، في كلمةٍ له مدحه فيها:
وفي كل حي قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب
فقال الملك: نعم وأذنبةٌ.وقوله:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعا"
يقول: سقيت هذا السجل وقد دنت أعناقها من أن تقطع عطشاً، وكرب في معنى المقاربة، يقال: كاد يفعل ذلك، وجعل يفعل ذلك، وكرب يفعل ذلك، أي دنا من ذلك. ويقال: جاء زيد والخيل كاربته، أي قد دنت منه وقربت. فأما أخذ يفعل، وجعل يفعل، فمعناهما أنه قد صار يفعل، ولا تقع بعد واحدة منهما: "أن" إلا أن يضطر شاعرٌ، قال الله عز وجل: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 1 أي لم يقرب من رؤيتها، وإيضاحه: لم يرها ولم يكد، وكذلك: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2، وكذلك: {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} 3 بغير "أن". ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميراً، وكاد المنتعل يكون راكباً وقد اضطر الشاعر فأدخل "أن" بعد "كاد"، كما أدخلها هذا بعد "كرب" فقال:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعها"
وقال رؤبة:
"قد كاد من طول البلى أن يمصحا4"
فكاد بمنزلة كرب في الإعمال والمعنى، قال الشاعر:
أغثني غياثاً يا سليمان إنني ... سبقت إليك الموت، والموت كاربي
خشية جورٍ من أميرٍ مسلطٍ ... ورهطي، وما عاداك مثل الأقارب!
وقوله: "لما أوشكت أن تضلعا": يقول: لما قاربت ذلك، والوشيك القريب من الشيء والسريع إليه، يقال: يوشك فلان أن يفعل كذا وكذا، والماضي منه أوشك، ووقعت بأن وهو أجود، وبغير "أن" كما كان ذلك في" لعل"، تقول: لعل زيداً يقوم، فهذه الجيدة، قال الله عز وجل: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} 1، و {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2 و {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} 3 وقال تميم بن نويرة:
لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من الآئي يدعنك أجدعا
وعسى، الأجود فيها أن تستعمل بأن، كقولك: عسى زيد أن يقوم، كما قال الله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} 4 وقال جل ثناؤه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 5 ويجوز طرح "أن "وليس بالوجه الجيد، قال هدبة:
عسى الكر بالذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب
وقال آخر6:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمرٍ جون الرباب سكوب
وحروف المقاربة لها باب قد ذكرناها فيه على مقاييسها في الكتاب المقتضب بغاية الاستقصاء.
وقوله: "أن تضلعا"،معناه أن تمتلئ، وأصله أن الطعام والشراب يبلغان الأضلاع فيكظانها1،كذلك قال الأصمعي في قولهم: أكل حتى تضلع.
وأما قول أبي وجزة: "راحت بستين وسقاً" فالوسق خمسة أقفزةٍ بملجم2 البصرة، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فما كان أقل من خمسة وعشرين قفيزاً بالقفيز الذي وصفنا، وهو نصف القفيز البغدادي في أرض الصدقة فلا صدقة فيه، وإنما أراد: أنه أخذ الكتاب بهذه الأوسق، فلذلك قال:
ما إن رأيت قلوصاً قبلها حملت ... ستين وسقا ولا جابت به بلدا
وأما قوله:
يقرون ضيفهم الملوية الجددا
فإنما أراد السياط، وجمع جديدٍ جددٌ، وكذلك باب "فعيل" الذي هو اسم، أو مضارع للاسم، نحو قضيب وقضيب، ورغيفٍ ورغفٍ، وكذلك سرير وسررٌ وجديدٌ وجددٌ، لأنه يجري مجرى الأسماء، وجريرٌ وجررٌ، فما كان من المضاعف جاز فيه خاصةً أن تبدل من ضمته فتحة لأن التضعيف مستثقلٌ، والفتحة أخف من الضمة، فيجوز أن يمال إليها استخفافاً، فيقال: جددٌ وسررٌ، ولا يجوز هذا في مثل قضيب لأنه ليس بمضاعفٍ، وقد قرأ بعض القراء: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} 3، ويقال للسوط: الأصبحي، ينسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان أول من اتخذ هذه السياط التي يعاقب بها السلطان، ويقال له: العرفاص والقطيع. وقال الشماخ:
تكاد تطير من رأي القطيع
وقال الصلتان العبدي:
أرى أمة شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي
وقال الراعي:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائما ًمغلولا
وقال الراجز:
حتى تردى طرف العرفاص
وقوله: "ولا جابت به بلدا"، يقول: ولا قطعت به، يقال: جبت البلاد، وقال الله عز وجل: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 1. ويقال: رجل جواب جوالٌ. وأنشدني علي بن عبد الله، قال: أنشدني القحذمي:
ما من أتت من دون مولده ... خمسون بالمغدور بالجهل
فإذا مضت خمسون عن رجلٍ ... ترك الصبا ومشى على رسل
وأمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بن خزيمة بقتل مرة بن محكان السعدي، فقال مرة في ذلك:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلي حبيبة ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت
قوله: "إذا الحرب العوان" فهي التي تكون بعد حربٍ قد كانت قبلها، وكذلك أصل العوان في المرأة إنما هي التي قد تزوجت، ثم عاودت فخرجت عن حد البكر، وقول الله عز وجل في كتابه العزيز: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} 2 هو تمام الكلام، ثم استأنف فقال: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} والفارض ههنا: المسنة، والبكر الصغيرة، ويقال: لهاةٌ فارضٌ أي واسعة، وفرض القوس موضع معقد الوتر، وكل حز فرضٌ، والفرضة متطرقٌ إلى النهر، قال الراجز:
لها زجاجٌ ولهاة فارض
وقوله" اشمعلت، إنما هو ثارت فأسرعت، قال الشماخ:
رب ابن عم لسيلمى مشمعل ... أروع في السفر وفي الحي غزل
طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقوله:
ولست وإن كانت إلي حبيبةٍ ... بباكٍ على الدنيا........
إنما هو تفديم وتأخير، أراد: ولست بباكٍ على الدنيا وإن كانت إلي حبيبة. ولولا هذا التقدير لم يجز أن يضمر قبل الذكر، ومثله:
إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السماحة منه والندى خلقا
وكذلك قول حسان بن ثابت:
قد ثكلت أمه من كنت واحدة ... أو كان منتسباً في برثن الأسد
ويقول: من كنت واحده قد ثكلت أمه، وكذلك:
شر يوميها وأخزاه لها ... ركبت هندٌ بحدجٍ جملا
يقول: ركبت هند بحدج جملا في شر يوميها.
وقال رجل من مزينة:
خليلي بالبوباة عوجا فلا أرى ... بها منزلاً إلا جديب المقيد
نذق برد نجدٍ بعد ما لعبت بنا ... تهامة في حمامها المتوقد
قوله: "بالبوباة"، فهي المتسع من الأرض، وبعضهم يقول: هي الموماة بعينها، قلبت الميم باء لأنهما من ااشفة، ومثل ذلك كثير، يقولون: ما اسمك وبا اسمك? ويقولون: ضربة لازم ولازب، ويقولون: هذا ظأمي وظأبي، يعنون السلف، قال أبو الحسن: الجيد سلف، وما قال ليس بممتنع، ويقولون: زكبة سوءٍ وزكمة سوءٍ، أي ولد سوء ويقولون: عجم الذنب وعجب الذنب، ويقولون: رجل أخرم وأخرب، وهذا كثير. وقال عمر بن أبي ربيعة:
عوجا نحيي الطلل المحولا ... والربع من أسماء والمنزلا
بجانب البوباة لم نعده ... تقادم العهد بأن يؤهلا
وقوله: "إلا جديب المقيد"، يقال: بلد جدبٌ وجديبٌ، وخصب وخصيب، والأصل في النعت خصيبٌ ومخصبٌ، وجديبٌ ومجدب، والخصب والجدب إنما هما ما حل فيه، وقيل: خصيبٌ وأنت تريد مخصب، وجديبٌ وأنت تريد مجدبٌ، كقولك: عذاب أليم وأنت تريده مؤلم، قال ذو الرمة:
ونرفع من صدور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أليم
ويقال: رجل سميع، أي مسمعٌ، قال عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وأما قوله: "المقيد" فهو موضع التقييد: وكل مصدر زيدت الميم في أوله إذا جاوزت الفعل من ذوات الثلاثة فهو على وزن المفعول، وكذلك إذا أردت اسم الزمان واسم المكان، تقول: أدخلت زيداً مدخلاً كريماً. وسرحته مسرحاً حسناً، واستخرجت الشيء مستخرجاً، قال جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا
أي تسريحي، وقال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً} 1 ويقال: قمت مقاماً، واقمت مقاماً وقال عز وجل: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} 2 أي موضع، وقال الشاعر3:
وما هي إلا في إزارة وعلقةٍ ... مغار ابن همام على حي خثعما
يريد زمن إغارة ابن همام.
وأما قوله: "نذق برد نجدٍ"، فذاك لأن نجداً مرتفعة وتهامة غورٌ منخفض، فنجدٌ باردة.
ويروى عن الأصمعي أنه قال: هجم علي شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم بها هرباً من حر مكة فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد? فقال: أريد هذا البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك فيه. فقلت له: أما تخاف الحر? فقال من الحر أفر.
وهذا الكلام نظير كلام الربيع بن خثيم، فإن رجلاً قال له - وقد صلى ليلةً حتى اصبح - أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب: إن أفره العبيد أكيسهم.
ونظير هذا الكلام قول روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب - ونظر إليه رجل واقفاً بباب المنصور في الشمس - فقال: قد طال وقوفك في الشمس! فقال روحٌ: ليطول وقوفي في الظل.
ومثله من الشعر قوله: قال أبو الحسن: هو عروة بن الورد:
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف
لعل الذي خوفتنا من ورائنا ... سيدركه من بعدنا المتخلف
ويروى: "لسرنا".
وقال آخر:
سأطلب بعد الدار منكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
وهذا معنى كثير حسن جميل.
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أآلفة النجب كم افتراقٍ ... أجد فكان داعية اجتماع
وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوفٍ على ترح الوداع
وقال رجل - واعتل في غربةٍ فتذكر أهله:
لو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقةً في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد
قوله: "أبصرت تخددي"، يريد ما حدث في جسمه من النحول، وأصل الخد ما شققته في الأرض، قال الشماخ:
فقلت لهم خدوا له برماحكم ... بطامسة الأعلام خفاقة الآل
ويقال للشيخ: قد تخدد، يراد قد تشنج جلده، وقال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} 1، وقيل في التفسير: هؤلاء قوم خدوا أخاديد في الأرض، وأشعلوا فيها نيراناً فحرقوا بها المؤمنين.
وقوله:
عضت من الوجد بأطراف اليد
فإن الحزين، والمغيظ، والنادم والمتأسف يعض أطراف أصابعه جزعاً، قال الله عز وجل: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} 2.
وفي مثل ما ذكرنا من تخدد لحم الشيخ، يقول القائل3:
يا من لشيخ قد تخدد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا4
سوداء حالكةً وسحق مفوفٍ ... وأجد لوناً بعد ذاك هجانا
صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه كراهةً وهوانا
قصر الليالي خطوة فتدانى ... وحنون قائم صلبه فتحانى
والموت يأتي بعد ذلك كله ... وكأنما يعنى بذاك سوانا
قوله:
أفنى ثلاث عمائم ألوانا يعني أن شعره كان أسود، ثم حدث فيه شيب مع السواد، فذلك قوله: مفوف، والتفويف: التنقيش، وإنما أخذ من الفوف، وهي النكتة البيضاء التي تحدث في أظفار الأحداث، وسميت بذلك لشبهها بشجرة يقال لها الفوفة وجمعها فوفٌ، والسحق: الخلق، يقال: عنده سحق ثوبٍ، وجرد ثوبٍ، وسمل ثوبٍ.
وقوله: أجد أي أستجد لوناً، والهجان الأبيض، وهي العمامة الثالثة يعني حيث شمله الشيب.












مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید