المنشورات

فرزدق يرثي ابنيه

وقال الفرزدق يرثي ابنيه:
بفي الشامتين الترب أن كان مسني ... رزية شبلي مخدرٍ في الضراغم1
وما أحدٌ كان المنايا وراءه ... ولو عاش أياماً طوالا بسالم
أرى كل حي ما تزال طليعةً ... عليه المنايا من ثنايا المخارم
يذكرني ابني السماكان موهناً ... إذا ارتفعا فوق النجوم العواتم1
وقد رزىء الأقوام قبلي بنيهم ... وإخوانهم، فاقني حياء الكرائم
ومات أبي والمنذران كلاهما ... وعمرو بن كلثوم شهاب الأراقم
وقد كان مات الأقرعان وحاجب ... وعمرو أبو عمرو، وقيس بن عاصم
وقد مات بسطام بن قيس بن خالدٍ ... ومات أبو غسان شيخ اللهازم
وقد مات خيراهم فلم يهلكاهم ... عشية بانا رهط كعب وحاتم
فما ابناك إلا من بني الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم
قال: وأنشدني التوزي عن أبي زيد: "خنين المآتم "بالخاء معجمة2.
قوله: "ما تزال طليعة "يريد طالعةً، والثنايا جمع ثنيةٍ، وهي الطريق في الجبل، من ذلك3:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
والمخارم: جمع مخرمٍ، وهو منقطع أنف الجبل.
وقوله: "فوق النجوم العواتم"، يعني المتأخرة، يقال: فلان يأتينا ولا يعتم: أي لايتأخر، وعتمة اسم للوقت، فلذلك سميت الصلاة بذلك الوقت، وكل صلاة مضافة إلى وقتها، تقول: صلاة الغداة، وصلاة الظهر، وصلاة العصر. وما قولك: الصلاة الأولى، فالأولى نعت لها إذا كانت أول ما صلي، وقيل أول ما أظهر.
وقوله: "فاقني حياء الكرائم" يقول: فالزمي، وأصل القنية المال اللازم، يقال: اقتنى فلان مالاً إذا اتخذ أصل مالٍ، وقيل في قول الله عز وجل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} 1. أي جعل لهم أصل مال، وأنشد أبو عبيدة2:
لو كان للدهر عز يطمئن به ... لكن للدهر صخر مال قنيان3
والكرائم: جمع كريمة، والاسم من "فعيلة" والنعت يجمعان على "فعائل"، فالاسم نحو: صحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والنعت نحو: عقيلة وعقائل، وكريمة وكرائم.
وقوله: "ومات أبي "يريد التأسي بالأشراف. وأبوه غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، وكان أبوه شريفاً، وأجداده إلى حيث إنتهوا، ولكل واحد منهم قصة يطول الكتاب بذكرها. والمنذران: المنذر بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، يريد الابن والأب، وعمرو بن كلثوم التغلبي، قاتل عمرو بن هند، وكان أحد أشراف العرب وفتاكهم وشعرائهم. والأراقم: قبيلة من بني تغلب ابنة وائل، من بني جشم بن بكر. وزعم أهل العلم أنهم إنما سموا الأراقم لأن عيونهم شبهت بعيون الحيات، والأراقم: واحدها أرقم، فكانوا معروفين بهذا. قال الفرزدق يرد على جرير في هجائه له وللأخطل:
إن الأراقم لن ينال قديمها ... كلب عوى متهتم الأسنان
وجعله شهاباً لهم لنوره وبهائه وضيائه، تقول العرب: إنما فلان نجم أهله وكذلك قالت الخنساء:
كأنه علم في رأسه نار
والأقرعان: الأقرع بن حابس، وابنه الأقرع من بني مجاشع بن دارم، وكان الأقرع في صدر الإسلام سيد خندف4، وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس. وحاجب بن زرارة بن عدس سيد بني تميم في الجاهلية غير مدافع.
وعمرو أبو عمرو، يريد عمرو بن عدس، وكان شريفاً، وكان ابنه عمرو شريفاً، قتل يوم جبلة1، قتلته بنو عامر بن صعصعة، وقتلوا لقيط بن زرارة وكان الذي ولي قتله عمارة الوهاب العبسي، وينسب إلى بني عامر، لأن بني عبس كانوا فيهم مع قيس بن زهير، وعمارة هذا كان يقال له: "دالق"2، وقتله شرحاف الضبي، ولذلك يقول الفرزدق:
وهن بشرحاف تداركن دالقاً ... عمارة عبس بعدما جنح العصر
وزعم أبو عبيدة أن فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أريت في منامها قائلاً يقول: أعشرة هدرة أحب إليك أم ثلاثة كعشرة هدرة بالدال غير معجمة، قال أبو الحسن: هم السقاط من الناس فلم تقل شيئاً، فعادلها في الليلة الثانية فلم تقل شيئاً، ثم قصت ذلك على زوجها فقال: إن عاد لك الثالثة فقولي: ثلاثة كعشرة وزوجها زياد بن عبد الله بن ناشب العبسي، فلما عاد لها قالت: ثلاثة كعشرة، فولدتهم كلهم غاية، ولدت ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، وهي إحدى المنجبات من العرب.
وأسرو حاجباً. فذلك حيث يقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:
تحضض يا ابن القين قيساً ليجعلوا ... لقومك يوما مثل يوم الأراقم
كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجبا ... وعمرو بن عمرو إذ دعوا: يال دارم
ولم تشهد الجونين والشعب ذا الصفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم
الجونان: معاوية وحسان ابنا الجون الكنديان، أسرا في ذلك اليوم، فقتل حسان، وفودي معاوية بسبب يطول ذكره. والشعب: شعب جبلة.
وقوله:
وشدات قيس يوم دير الجماجم هذا في الإسلام، يعني وقعة الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي بدير الجماجم.
وقوله1:
وقد مات بسطام بن قيس بن خالد
يعني الشيباني، وهو فارس بكر بن وائل وابن سيدها، وقتل بالحسن2 وهو جبل قتله عاصم بن خليفة الضبي، وكان عاصم بن خليفة أسلم في أيام عثمان رحمه الله، فكان يقف ببابه فيستأذن عليه، فيقول عاصم بن خليفة الضبي: قاتل بسطام بن قيس بالباب قال أبو الحسن: الوجه عندي في "بسطام" ألا ينصرف لأنه أعجمي وكان سبب قتله إياه أن بسطاماً أغار على بني ضبة، وكان معه حاز يحزو له قال أبو الحسن: " حاز" بالزاي أي زاجر فقال له بسطام: إني سمعت قائلاً يقول:
الدلو تأتي الغرب المزله3
فقال الحازي: فهلا قلت:
ثم تعود بادناً مبتله4
قال: ما قلت فاكتسح إبلهم، فتنادوا واتبعوه، ونظرت أم عاصم إليه، وهو يقع حديدة له أي يحدها، والميقعة: المطرقة فقالت له: ما تصنع بهذه وكان عاصم مضعوفاً5 فقال لها: أقتل بها بسطام بن قيس، فنهرته، وقالت: است أمك أضيق من ذلك فنظر إلى فرس لعمه موثقةٍ إلى شجرة فاعروراها أي ركبها عرياً ثم أقبل بها كالريح، فنظر بسطام إلى الخيل قد لحقته، فجعل يطعن الإبل في أعجازها، فصاحت به بنو ضبة: يا بسطام، ما هذا السفه دعها، إما لنا وإما لك، وانحط عليه عاصم، فطعنه فرمى به على الألاءة وهي شجرة ليست بعظيمة، وكان بسطام نصرانياً، وكان مقتله بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراد أخوه الرجوع إلى القوم، فصاح به بسطام: أنا حنيف إن رجعت، ففي ذلك يقول ابن غنمة الضبي وكان في بني شيبان:
فخر على الألاءه لم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
ولما قتل بسطام لم يبق في بكر بن وائل بيت إلا هجم أي هدم.
وقوله:
ومات أبو غسان شيخ اللهازم
يعني مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب، أحد بني قيس بن ثعلبة، وإليه تنسب المسامعة. وكان سيد بكر بن وائل في الإسلام، وهو الذي قال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم اللآت بن ثعلبة وكان حين حدث أمر مسعود بن عمرو المعني من الأزد فلم يعلمه به، فقال له عبيد الله وهو أحد فتاك العرب، وهو قابل مصعب بن الزبير: أيكون مثل هذا الحدث ولا تعلمني به لهممت أن أضرم دارك عليك ناراً فقال له مالك: اسكت أبا مطر، فوالله إن في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك، فقال له عبيد الله: أو أنا في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو قعدت فيها لخرقتها، فقال له مالك وأعجبه ما سمع منه: أكثر الله في العشيرة مثلك قال: لقد سألت ربك شططاً!
وفي مالك بن مسمع يقال:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوماً فعسكراً
قوله: "وقد مات خيراهم"، تثنية كقولك: مات أحمراهم، ولم يخرج مخرج النعت، ألا ترى أنك تقول: هذا أحمر القوم إذا أردت: هذا الأحمر الذي للقوم، فإذا أردت الذي يفضلهم في باب الحمرة قلت: هذا أشدهم حمرة، ولم تقل: هذا أحمرهم، وكذلك خيراهم، وإنما أردت هذا خيرهم ثم ثنيت، أي هذا الخير الذي هو فيهم.
وقوله: "عشية بانا"، مردود على قوله: "خيراهم".
وقوله: "رهط كعب وحاتم"، إنما خفضت "رهطاً" لأنه بدل من "هم" التي أضفت إليها "الخيرين" والتقدير: وقد مات خيراً رهط كعب وحاتم، فلم يهلكاهم عشية بانا.
فأما كعب، فهو كعب بن مامة الإيادي، وكان وكان أحد أجواد العرب الذي آثر على نفسه، وكان مسافراً ورفيقه رجل من النمر بن قاسط فقل عليهما الماء فتصافناه والتصافن: أن يطرح في الإناء حجرٌ1 ثم يصب فيه من الماء ما يغمره لئلا يتغابنوا: وكذلك كل شيء وقف على كيله أو وزنه، والأصل ما ذكرنا فجعل النمري يشرب نصيبه، فإذا أخذ كعب نصيبه قال: اسق أخاك النمري، فيؤثره حتى جهد كعبٌ، ورفعت له أعلام الماء، فقيل له: رد كعب ولا ورود به، فمات عطشاً، ففي ذلك يقول أبو دؤاد الإيادي:
أوفى على الماء كعبٌ ثم قيل له ... رد كعب إنك ورادٌ فما وردا
فضرب به المثل، فقال جرير في كلمته التي مدح فيها عمر بن عبد العزيز:
يعود الفضل منك على قريشٍ ... وتفرج عنهم الكرب الشدادا
وقد أمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناس وحشك أن تصادا
وتبني المجد يا عمر ابن ليلى ... وتكفي الممحل السنة الجمادا
وتدعوا الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتك المعادا
وما كعب ابن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا
تعود صالح الأخلاق إني ... رأيت المرء يلزم ما استعادا
هذا كعب ابن مامة الذي ذكرناه.
وأما ابن سعدى، فهو أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وكان سيداً مقدماً، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو ابن هند، وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فدعا أوساً فقال له: أأنت أفضل أم حاتم? فقال أبيت اللعن لو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداةٍ واحدةٍ. ثم دعا حاتماً فقال له: أنت أفضل أم أوسٌ? فقال أبيت اللعن إنما ذكرت بأوسٍ، ولأحد ولده أفضل مني.
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلة وعنده وفود العرب من كل حي فقال: احضروا في غد، فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فحضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف فقال إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أكون حاضراً، وإن كنت أنا المراد فسأطلب ويعرف مكاني. فلما جلس النعمان لم ير أوساً، فقال اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت، فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلاً في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم، أحد بني أسد بن خزيمة: أنا أهجو لكم، فأخذ الإبل وفعل، فأغار أوس على الإبل فاكتسحتها، فجعل لا يستجير حياً إلا قال: قد أجرتك إلا من أوس. وكان في هجائه إياه قد ذكر أمه، فأتى به، فدخل أوس على أمه فقال: قد أتينا ببشرٍ الهاجي لك ولي، فما ترين فيه? فقالت له: أو تطيعني فيه? قال نعم، قالت: أرى أن ترد عليه ماله، وتعفو عنه وتحبوه، وافعل مثل ذلك، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه.
فخرج إليه فقال: إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال: لا جرم والله لا مدحت أحداً حتى أموت غيرك. ففيه يقول:
إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها
وما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها
وأما حاتمٌ الذي ذكره الفرزدق، فهو حاتم بن عبد الله الطائي، جواد العرب، وقد كان الفرزدق صافن رجلاً من بني العنبر بن عمرو بن تميم إدواة1 في وقتٍ، فرامه العنبري وسلمه أن يؤثره وكان الفرزدق جوادا فلم تطب نفسه عن نفسه، فقال الفرزدق:
فلما تصافنا الإداوة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على ساعةٍ لو أن في القوم حاتماً ... على جوده ضنت به نفس حاتم
أما قوله: "أجهشت" فهو التسرع، وما تراه في فحواه من مقاربة الشيء، يقال: أجهش بالبكاء. والغضون: التكسر قي الجلد، والجراضم: الأحمر الممتلئ.
وقوله:
ليشرب ماء القوم بين الصرائم
فهي جمع صريمةٍ، وهي الرملة التي تنقطع من معظم الرمل، وقوله: "صريمة "يريد مصرومة، والصرم: القطع، وأتشد الأصمعي:
فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى على صريمته الظلام
يعني ثوراً، وصريمته: رملته التي هو فيها. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} 2 قولين، قال قوم: كالليل المظلم، وقال قوم: كالنهار المضيء، أي بيضاء لا شيء فيها، فهو من الأضداد. ويقال: لك سواد الأرض وبياضها، أي عامرها وغامرها، فهذا ما يحتج به لأصحاب القول الأخير، ويحتج لأصحاب القول الأول في السواد بقول الله تبارك وتعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 3، وإنما سمي السواد سواداً لعمارته، وكل خضرةٍ عند العرب سواد، ويروى:
على ساعةٍ لوأن في القوم حاتماً ... على جوده ما جاد بالماء حاتم
جعل" حاتما" تبيناً للهاء في جوده، وهو الذي يسميه البصريون البدل، أراد: على جود حاتمٍ.














مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید