المنشورات

كتاب صاحب اليمن إلى عبد الملك في وقت محاربته ابن الأشعث

وكتب صاحب اليمن إلى عبد الملك وقت محاربته ابن الأشعث: إني قد وجهت إلى أمير المؤمنين بجارية اشتريها بمال عظيم لم ير مثلها قط، فلما دخل بها عليه رأى وجهاً جميلاً وخلقاً نبيلاً فألقى إليها قضيباً كان في يده فنكست لتأخذه فرأى منها جسماً بهره، فلما هم بها أعلمه الآذن أن رسول الحجاج بالباب، فأذن له، ونحى الجارية، فأعطاه كتاباً من عبد الرحمن، فيه سطور أربعة:
سائل مجاور جرم: هل جنيت لها ... حرباً تزيل بين الجيرة الخلط1
وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط
وهل تركت نساء الحي ضاحيه ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط
وتحتها1:
قتل الملوك وسار تحت لائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
قال: فكتب إليه عبد الملك كتاباً، وجعل في طيه جواباً لابن الأشعث:
ما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سفاهته كسري2
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر
وإني إياهم كمن نبه القطا ... ولو لم باتت الطير لا تسري
أناة وحملماً وانتظر بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
وينشد: "بالفاني". ثم بات يقلب كف الجارية ويقول: ما أفدت فائدة أحب إلي منك، فتقول: فما بالك ياأمير المؤمنين وما يمنعك فقال: [يمنعني] 3 ما قال الأخطل لأني إن خرجت منه كنت ألأم العرب:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأظهار
فما إليك سبيل أو يحكم الله بيني وبين عدو الرحمن، ابن الأشعث، فلم يقربها حتى قتل عبد الرحمن.
قوله:" فرأى منها جسماً بهره"، يقال: بهر الليل إذا سد الأفق بظلمته، وبهر القمر إذا ملأ الأرض ببهائه، ومن ثم قيل: القمر4 الباهر، أنشدني المازني لرجل من بني الحارث بن كعب:
والقمر الباهر السماء لقد ... زرنا هلالاً بجحفل لجب
تسمع زجر الكماة بينهم: ... قدم، وأخر، وأرحبي، وهبي1
من كل هداءةٍ كعالية الر ... مح أمونٍ وشيظم سلب2
وقال طفيل الغنوي يصف كيف تزجر الخيل، فجمعه في بيت واحد:
وقيل اقدمي واقدم وأخ وأخري ... وها، وهلاً واضرح3 وقادعها هبي
قال أبو الحسن: وأج.
ومن زجر الخيل أيضاً: "هقب وهقط"، وأنشدني المازني:
لما سمعت زجرهم هقط ... علمت أن فارساً منحط4
وقوله: "بين الجم والفرط" هما موضعان بأعيانهما.
وقوله:
"في ساحة الدار يستوقدن بالغبط"
يقال فيه قولان متقاربان: أحدهما أنهن قد يئسن من الرحيل فجعلن مراكبهن حطباً، هذا قول الأصمعي. وقال غيره: بل قد منعهن الخوف من الاحتطاب، والغبيط من مراكب النساء: وكذلك الحدج قال امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً: ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فأعلمك أن الغبيط لها، والمحامل إنما أول من اتخذها الحجاج، ففي ذلك يقول الراجز:
أول عبدٍ عمل المحاملا ... أخزاه ربي عاجلاً وآجلاً
وقوله: "شجر العرا" فالعرا: نبت إن ضم العين، والعراء ممدوداً وجه الأرض، قال الله عز وجل: {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} 5. وقال الهذلي6:
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وهذا التفسير والإنشاد عن أبي عبيدة.
وقوله:
"دون النساء ولو باتت بأطهار"
معناه أنه يجتنبها، في طهرها، وهو الوقت الذي يستقيم له غشيانها فيه، وأهل الحجاز يرون" الأقراء" الطهر، وأهل العراق يرونه الحيض، وأهل المدينة يجعلون عدد النساء الأطهار، ويحتجون بقول الأعشى:
وفي كل أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مؤرثه مالاً، وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وقوله: "ولو باتت بأطهار"، ف" لو" أصلها في الكلام أن تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، تقول: لو جئتني لأعطيك، ولو كان زيد هناك لضربته، ثم يتسع فتصير في معنى" إن" الواقعة للجزاء تقول: أنت لا تكرمني ولو أكرمتك، تريد"وإن" قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 1، فأما قوله عز وجل: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} 2 فإن تأويله عند أهل اللغة: لا يقبل أن يتبرأ به وهو مقيم على الكفر، ولا يقبل إن افتدى به، فـ"لو" في معنى "إن" وإنما منع "لو" أن تكون من حروف المجازاة فتجزم كما تجزم "إن" أن حروف المجازاة إنما تقع لما لم يقع، ويصير الماضي معها في معنى المستقبل تقول: إن جئتني أعطيتك، وإن قعدت عني زرتك، فهذا لم يقع.،وإن كان لفظ الماضي لما أحدثته فيه "إن "وكذلك متى أتيتني أتيتك، و"لو" تقع في معنى الماضي، تقول: لو جئتني أمس لصادفتني، ولو ركبت إلي أمس لألفيتني، فلذلك خرجت من حروف الجزاء، فإذا أدخلت معها "لا" صار معناها أن الفعل يمتنع لوجود غيره، فهذا خلاف ذلك المعنى، ولا تقع إلا على الأسماء، ويقع الخبر محذوفاً لأنه لا يقع فيها الأسم إلا وخبره مدلول عليه، فاستغني عن ذكره، لذلك تقول: لولا عبد الله لضربتك، والمعنى في هذا المكان: من قرابتك، أوصداقتك، أو نحو ذلك، فهذا معناها في هذا الوضع، ولها موضع آخر تكون فيه على غير هذا المعنى، وهي "لولا"التي تقع في معنى"هلا" للتحضيض، ومن ذلك قوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} 1، أي هلا، وقال الله عز وجل: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} 2. فهذه لا يليها إلا الفعل.، لأنها للأمر والتحضيض، مظهراً أو مضمراً.،كما قال3:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكمي المقنعا
أي هلا تعدون الكمي المقنعا،"ولولا "الأولى لا يليها إلا الاسم على ما ذكرت لك.،ولا بد في جوابها من اللام أو معنى اللام، تقول: لولا زيدٌ فعلت، والمعنى لفعلت، وزعم سيبويه أن"زيداً "من حديث "لولا" واللام والفعل حديثٌ معلقٌ بحديث "لولا"، وتأويله أنه للشرط الذي وجب من أجلها وامتنع لحال الاسم بعدها، و"لو "لا يليها إلا الفعل مضمراً أو مظهراً.، لأنها تشارك حروف الجزاء في ابتداء الفعل وجوابه، تقول: لو جئتني لأعطيتك.، فهذا ظهور الفعل، وإضماره، قوله عز وجل4: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} 5. والمعنى والله أعلم: لو تملكون أنتم.، فهذا الذي رفع "أنتم" ولما أضمر ظهر بعده ما يفسره، ومثل ذلك: "لو ذات سوارٍ لطمتني" أراد لو لطمتني ذات سوارٍ، ومثله6:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسماً
وكذلك قول جرير:
لو غيركم علق الزبير بحبله ... أدى الجوار إلى بني العوام
فنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأنها للفعل، وهو في التمثيل: لو علق الزبير غيركم، وكذلك كل شيء للفعل نحو: الاستفهام، والأمر، والنهي، وحروف الفعل نحو: "إذ وسوف"1 وهذا مشروح في الكتاب "المقتضب" على حقيقة الشرح.
وأما قوله: "وعراعر الأقوام "فمعناها رؤوس الأقوام، الواحد عرعرة، وعرعرة كل شيءٍ أعلاه، من ذلك كتاب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بن يوسف: "وإن العدو نزلوا2 بعرعرة الجبل، ونزلنا بالحضيض"، فقال الحجاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هناك? قيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد أن يشخصه إليه.













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید