المنشورات

ضابئ البرمجي وهو في السجن

وقال ضابئ بن الحارث البرمجي1:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخاشتهن وجييب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
وقوله:
فإني وقياراً بها لغريب
أراد: فإني لغريب بها وقياراٌ، ولو رفع لكان جيداٌ، تقول: إن زيداٌ منطلقٌ وعمراٌ وعمرو، فمن قال: "عمراٌ" فإنما رده على زيد، ومن قال: "عمرو" فله وجهان من الإعراب: أحدهما جيد، والآخر جائز، فأما الجيد فأن تحمل عمراٌ على الموضع، لأنك إذا قلت: إن زيداٌ منطلق فمعناه زيد منطلق فرددته على الموضع، ومثل هذا لست بقائم ولا قاعداً، والباء زائدةٌ، لأن المعنى لست قائماٌ ولا قاعداٌ، ويقرأ على وجهين: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1 {وَرَسُولُهُ} والوجه الآخر لأن يكون معطوفاٌ على المضمر في الخبر، فإن قلت إن زيداٌ منطلق هو وعمرو حسن العطف لأن المضمر المرفوع إنما يحسن العطف عليه إذا أكدته، كما قال الله تعالى: {فاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 2 و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 3 إنما قبح العطف عليه بغير تأكيد لأنه لا يخلو من أن يكون مستكنا في الفعل بغير علامة، أو في الاسم الذي يجري مجرى الفعل، نحو إن زيداً ذهب وإن زيداٌ ذاهب فلا علامة له، أو تكون له علامة يتغير لها الفعل عما كان نحو ضربت، سكنت الباء التي هي لام الفعل من أجل الضمير لأن الفعل والفاعل لاينفك أحدهما عن صاحبه فهما كالشيء الواحد، ولكن المنصوب يجوز العطف عليه، ويحسن بلا تأكيد، لأنه لا يغير الفعل إذ كان الفعل قد يقع ولا مفعول فيه، نحو ضربتك وزيداً، فأما قول الله عز وجل: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 4 فإنما يحسن بغير توكيد لأن" لا" صارت عوضاً، والشاعرإذا احتاج أجراه بلا توكيد لا حتمال الشعر ما لا يحسن في الكلام. وقال عمر بن أبي ربيعة:
قلت إذا أقبلت وزهرٌ تهادى ... كنعاج الملا تعفسن رملا
وقال جرير:
ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا
فهذا كثير. فأما النعت إذا قلت إن زيدا يقوم العاقل فأنت مخير إن شئت قلت العاقل فجعلته نعتاً لزيد، أو نصبته على المدح وهو بإظمار أعني، وإن شئت رفعت على أن تبدله من المضمر في الفعل، وإن شئت كان على قطع وابتدءٍ، كأنك قلت إن زيداً قام، فقيل من هو فقلت: العاقل، كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} 1، أي هو النار والآية تقرأ على وجهين على ما فسرنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 2 وعلام "الغيوب".
وقوله:
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً............................
يقول: إذا لم تعجل له طير سانحةٌ فليس ذلك بمبعدٍ خيراً عنه، ولا إذا أبطأت خاب، فعاجلها لا يأتيه بخير، وآجلها لا يدفعه عنه، إنما له ما قدر له، والعرب تزجر على السانح وتتبرك به، وتكره البارح وتتشاءم به، والسانح: ما أراك مياسره فأمكن الصائد، والبارح: ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد، إلا أن ينحرف له، وقد قال الشاعر:
لا يعلم المرء ليلاً ما يصبحه ... إلا كواذب مما يخبر الفال
والفال والزجر والكهان كلهم ... مضللون، ودون الغيب أقفال
وقوله:
ورب أمورٍ لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشلتهم وجيب3
فإن العرب تقول: ضارة يضيرة ضيرةً، ولا ضرر عليه، وضره يضره، ولا ضرر عليه [ولا ضر عليه] 4، ويقال أصابه ضر بمعنى، والضر مصدر، والضر اسم، وقد يكون الضر من المرض، والضر عاماً، وهذا معنى حسن، وقد قال أحد المحدثين، وهو إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بإذن الله من حيث بحذر 
وقال الله عز وجل: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} 1.
وقال رجل لمعاوية: والله لقد بايعتك وأنا كاره، فقال معاوية: قد جعل الله في الكره خيراً كثيراً.
وقوله:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
نظيره قول كثير:
أقول لها يا عز كل مصيبةٍ ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
وكان عبد الملك بن مروان يقول: لو كان قال هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس.
وحكي عن بعض الصالحين أن ابناً له مات فلم ير به جزعٌ، فقيل له في ذلك، فقال: هذا أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.











مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید