المنشورات

حديث السواقط

قال أبو العباس: قرأت على عبد الله بن محمد المعروف بالتوزي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، قال: كانت السواقط ترد اليمامة في الأشهر الحرم لطلب التمر، فإن وافقت ذلك، وإلا أقامت بالبلد إلى أوانه، ثم تخرج منه فيشهر حرام، فكان الرجل منهم إذا قدم يأتي رجلً من بني حنيفة، وهم أهل اليمامة، أعني بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربعة بن نزار فيكتب له على سهم أو غيره: "فلان جار فلان" والسواقط: من ورد اليمامة من غير أهلها، وقد كان النعمان بن المنذر أراد أن يجليهم منها، فأجارهم مرارة بن سلمي الحنفي.
ثم أحد بني ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فسوغه الملك ذلك، فقال أوس بن حجرٍ يحض النعمان عليه:
زعم ابن سلمي مرارة أنه ... مولى السواقط دون آل المنذر
منع اليمامة حزنها وسهولها ... من كل ذي تاجٍ كريم المفخر
وذكر أبو عبيدة أن رجلاً من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة، ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلمى أنه له جار وكان أخو هذا الكلابي جميلاً فقال له قرين، أخو عمير: لا تردن أبياتنا بأخيك هذا، فرآه بعد بين أبياتهم، فقتله.
قال أبو عبيدة: وأما المولى1 فذكر أن قريناً أخا عميرٍ كان يتحدث إلى امرأة أخي الكلابي، فعثر عليه زوجها فخافه قرين عليها فقله، وكان عمير غائباً، فأتى الكلابي قبر سلمي أبي عمير وقرين فاستجار به وقال:
[قال أبو الحسن الأخفش، قال أبو العباس: قرينٌ، ووجدته بخط دماذ، صاحب أبي عبيدة قرين] .
وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وآل مجمع
وأتيت سلمياً فعذت بقبره ... وأخو الزمانة عائدٌ بالأمنع2
أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... بعمامتين3 إلى جوانب ضلفع4
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع
فلجأ قرينٌ إلى قتادة بن مسلمة بن عبيد بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فحمل قتادة إلى الكلابي دياتٍ مضاعفةً، وفعلت وجوه بني حنيفة مثل ذلك فأبى الكلابي أن يقبل، فلما قدم عمير قالت له أمه وهي أم قرين: لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله، فأبى الكلابي أن يقبل، وقد لجأ قرينٌ إلى خاله السمين بن عبد الله فلم يمنع عميراً منه، فأخذه عميرٌ فمضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة، وقال للكلابي: أما إذ أبيت إلا قتله فأمهل حتى أقطع الوادي، وارتحل عن جواري فلا خير لك فيه، فقتله الكلابي، ففي ذلك يقول عمير:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره
وقالت أم عمير:
تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما
وقوله: "ولم تكن للغدر خائنة"، ولم يقل خائناً. فإنما وضع هذا في موضع المصدر والتقدير: ولم تكن ذا خيانة.
وقوله"للغدر": أي من أجل الغدر، وقال المفسرون والنحويون في قول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1 أي لشديدٌ: من أجل حب الخير، والخير ههنا: المال، من قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} 2.
وقوله" لشديدٌ": أي لبخيل، والتقدير والله أعلم: إنه لبخيل من أجل حبه للمال، تقول العرب: فلان شديد ومتشدد أي بخيل، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد3
وقلما يجيء المصدر على فاعل، فمما جاء على وزن "فاعل": قولهم عوفي عافيةً، وفلج فالجاً، وقم قائماً: أي قم قياماً، وكما قال:
ولا خارجاً من في زور كلام
أي ولايخرج خروجاً، وقد مضى تفسير هذا.
والمغل الذي عنده غلول، وهو ما يختان ويحتجن، ويستعمل مستعاراً في غير المال، يقال: غل يغل كقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1.
ويقال: أغل فهو مغل إذا صودف يغل، أو نسب إليه، ومن قرأ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} 2. فتأويله أن يأخذ ويستأثر، ومن قرأ: {يَغُلَّ} فتأويله على ضربين يكون أن يقال ذلك فيه، ويكون وهو الذي يختار أن يخون، فإن قال قائل كيف يكون التقدير، وقد قال: ما كان لنبي أن يغل فيغل لغيره، وأنت لا تقول ما كان لزيد أن يقوم عمرو? فالجواب أنه في التقدير على معنى: ما ينبغي لنبي أن يخون، كما قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3. ولو قلت: ما كان لزيد أن يقوم عمرو إليه لكان جيداً، على تقديرك: ما كان زيدٌ ليقوم عمرو إليه، كما قلنا في الآية.
والإصبع، أفصح ما يقال وقد يقال: أصبع وإصبع وأصبع موضعها ههنا موضع اليد. يقال: لفلان عليك يدٌ، ولفلان عليك إصبعٌ، وكل جيدٌ، وإنما يعني ههنا النعمة.
وأما قوله:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا
فيكون على ضربين: أحدهما أن يكون فخم نفسه وعظمها، فذكرها باللفظ الذي يذكر الجميع به، والعرب تفعل هذا ويعد كبراً، ولا ينبغي على حكم الإسلام أن يكو هذا مستعملاً إلا عن الله عز وجل، لأنه ذو الكبرياء، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 4 و {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 5، وكل صفات الله أعلى الصفات وأجلها، فما استعمل في المخلوقين على تلك الألفاظ وإن خالفت في الحكم فحسن جميل، كقولك: في فلان عالم، وفلان قادرٌ، وفلان رحيم، وفلان ودودٌ، إلا ما وصفنا قبل من ذكر التكبر، فإنك إذا قلت: فلان جبار أو متكبر كان عليه عيباً ونقصاً، وذلك لمخالفة هاتين الصفتين الحق. وبعدهما من الصواب، لأنهما للمبدئ المعيد الخالق البارئ، ولا يليق ذلك بمن تكسره الجوعة، وتطغيه الشبعة، وتنقصه اللحظة، وهو في كل أموره مدبرٌ. وأما القول الآخر في البيت وهو" قتلنا أخانا" فمعناه أنه له ولمن شايعه من عشيرته.
وأما قولها:
ومن يقتل أخاه فقد ألاما
تقول: أتى ما يلازم عليه، يقال: ألام الرجل إذا تعرض لأن يلام.













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید