المنشورات
قال مروان بن أبي حفصة
وهو مروان بن سليمان بن يحيى بن يحيى بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة يزيدُ:
إن الغواني طالما قتلننا ... بعيونهن ولا يدين قتيلا
من كل آنسةٍ كأن حجالها ... ضمن أحور في الكناسِ كحيلاَ
أردين عروة والمرقش قبله ... كل أصيب وما أطاق ذهولا
ولقد تركن أبا ذؤيبٍ هائماً ... ولقد تبلنَ كثيراً وجميلا
وتركن لابن أبي ربيعة منطقاً ... فيهن أصبح سائراً محمولا
إلا أكن ممن قتلن فإنني ... ممن تركن فؤاده مخبولا
قوله: "ولا يدين قتيلا" يقال: ودي يدي، وكل ما كان من فَعَلَ مما فاؤه واوٌ ومضارعُه يَفْعِل فالواوُ ساقطةٌ منه1، لوقوعها بني ياءٍ وكسرةٍ، وكذلك ما كان منه على فَعِلَن يَفْعِلُ، لأن العلةَ في سقو الواو كسرةٌ العين بعدَها. وقد مضى تفسيرُ هذا.
ولكن في يدينَ علة أخرى، وهي أن الياء التي هي لام الفعلِ بعد كسرةٍ، فهي تعتلُّ اعتلال آخر يرمي، وأوله يعتل اعتلال واو يعد، واحتمل علتين لأن بينهما حاجزاً، ومثل ذلك وعى يعي، ووقى يقي، ووفى يفي، ووشى يشي، وونى في أمر1 يني، وما أشبه ذلك. ويقعُ في فَعِلَ، نحو وَلَى الأميرُ الآن يلي.
فإذا أمرتَ كان الفعل على حرفٍ واحدٍ في الوصلِ، لاتصاله بما بعده، تقول: يا زيد ع كلاماً، وشِ ثوباً، وتقولُ: لِ عمراً يا زيدُ، من وليتُ، فإذا وقفت قلت: لهْ، وشِهْ، وقِهْ، لايكون إلا ذلك، لأن الواوَ تسقطُ فتبتدىء بمتحركٍ، فلا تحتاجُ2 إلى ألفِ وصل3، فإذا وقفت احتجت إلى ساكنٍ تقفُ عليه فأدخلت الهاء لبيان الحركةِ1 في الأول، ولم يجز إلا ذلك. ومن قال لك: الفظ لي بحرفٍ واحدٍ غير موصولٍ فقد سألك2 محالا، لأنك لاتبتدىء إلا بمحركٍ. ولا تقفُ إلى على ساكنٍ، فقد قال لك الفظ لي بساكنٍ متحرك في حالٍ.
وقوله؛ ضمن يقالُ: ضمن القبرُ زيداً، وضمنَ القبرَ زيدٌ؛ كلٌّ صحيحٌ. فمن قال: ضمن القبرُ زيداً، فإنما أراد جعل القبر ضمين زيدٍ، ومنقال: ضمنَ زيدٌ القبرَ، فإنما أراد: جعلَ زيدٌ في ضمنِ القبر، وينشد هذا البيت على وجهين:
وما غائبٌ من غابَ يُرجى إيابهُ ... ولكنهُ من ضمنَ اللحدَ غائبُ3
ومن روى "من ضمن اللحدُ غائبُ" يريدُ من ضمنه اللحدُ، وحذفَ الهاءَ من صلةِ من، وهذا من الواضح الذي لا يحتج إلى تفسير.
وقوله: أحور يعني ظبياً، وأهل الغريب يذهبون إلى أن الحوار في العين شدةً سوادِ سوادها وشدةُ بياض بياضها، والذي عليه العرب إنما هو نقاءٌ البياضِ، فعند ذلك يتضح السوادُّ. وقد فسرنا الحورَ والحواري.
والكناسُ: حيث تكنسُ البقرة والظبيةُ، وهو أن تتخذ في الشجرةِ العادية كالبيت تأوي إليه وتبعر فيه، فيقال إن رائحته أطيبُ رائحة، لطيب ما ترتعي، قال ذو الرمةِ:
إذا استهلت عليه غيبةٌ أرجت ... مرابضُ العين حتى يأرجَ الخشبُ
كأنه بيتُ عطارٍ يضمنهُ ... لطائم المسكِ يحويها وتنتهب4
قوله: "غيبة" هي الدفعة من المطرِ، وعند ذلك تتحرك الرائحةُ.
والأرجُ: توهجُ الريحِ، وإنما يستعمل ذلك في الريح الطيبةِ.
والعين: جمعُ عيناءَ، يعني البقرةَ الوحشيةَ، وبها شبهت المرأة، فقيل: حورٌ عينٌ.
واللطيمة: الإبلُ التي تحملُ العطرَ والبزَّ، لا تكون لغير ذلك.
فيقولُ: ضمنَّ ظبياً أحور العين أحكلَ، وجعلَ الحجالَ كالكناسِ. وقال ابن عباس في قول الله جلَّ وعزَّ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} 1 قال: أقسم2 ببقر الوحش لأنها خنسُ الأنوف: والكنسُ: التي تلزمُ الكناسَ. وقال غيره: أقسم بالنجوم التي تجري بالليل وتخنس بالنهار، وهو الأكثر.
وقوله: أردين، يقول3: أهلكنَ، والردى: الهلاكُ والموت من ذا.
والذهولُ الانصراف، يقال: ذهلَ4 عن كذا وكذا: إذا انصرف عنه إلى غيره. قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تسلى وتنسى عنه إلى غيره.
قال كثير:
صحا قلبهُ يا عزّ أو كاد يذهلُ ... وأضحى يريدُ الصرمَ أو يتدللُ
وقوله:
ولقد تبلن كثيراً وجميلاً
أصل التبل الترةُ، يقال: تبلي عند فلانٍ؛ قال حسانُ بن ثابتٍ:
تبلت فؤادك في المنامِ خريدةٌ ... تشفي الضجيع بباردٍ بسامِ
والخريدةٌ: الحييةٌ.
وقوله:
ممن تركن فؤاده مخبولا
يريد: الخبل، وهو الجنون، ولو قال: محبولا لكان حسناً يريدُ مصيداً واقعاً في الحبالةِ، كما قال الأعشى:
فلكنا هائم في إثر صاحبهِ ... دانٍ وناءٍ ومحبولٌ ومحتبلُ
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
2 يونيو 2024
تعليقات (0)