المنشورات

الخوارج وابن الزبير

فكان أول أمرهم الذي نستاقه: أن جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة، لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرة، فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة، ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك.
فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبي - وكان من مجتهدي الخوارج - كان يذمر نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان يفعل ذلك بأصحابه، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور السلطان - وكان ذا لسان عضب، واحتجاج وصبر على المنازعة - فأتاه أبو الوازع، فقال يا نافع، لقد أعطيت لساناً صارماً وقلباً كليلاً، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه! فقال: إلى أن يجتمع1 من أصحابك من تنكي به عدوك، فقال أبو الوازع:
لسانك لا ينكى به القوم إنما ... تنال بكفيك النجاة من الكرب
فجاهد أناساً حاربوا اله واصطبر ... عسى الله أن يخزي غوي بني حرب
ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً1 كان يذم الخوارج ويدل على عوراتهم، فشاوره في السيف فحمده، فقال: اشحذه، فشحذه، حتى إذا رضيه حكم وخبط به الصقيل وحمل على الناس فتهاربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر، خوفاً أن تجعل الخوارج قبره مهاجراً، فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدوا، وخرج في ذلك جماعة، فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطي، من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة.
فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير.
ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن2 في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى
التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن "أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا"1.
فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه2 من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى" فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار4 الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني5 بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 6, وقال جل ثناؤه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} 7. وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله.
فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض".
فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: "سبقته إلى الجنة"، وقال: "أوجب طلحة". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2.
فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه.
وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان3 حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة:
يا صاحبي ارتجلا ثم املسا ... لا تحسبا لدى الحصين محبسا
إن لدى الأركان ناسناً بؤسا













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید