المنشورات

كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرة

وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 1، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 2! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 1؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة2. وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه3؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4. والسلام على من اتبع الهدى.
فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق5 ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم6، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين.
فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته.
وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم: سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً:
فارقت نجدت والذين تزرقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذاب1
والصفرة الأذان الذين تخيروا ... ديناً بلا ثقة ولا بكتاب
- خفف الهمزة من الآذان ولولا ذلك لانكسر الشعر -
وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز، وإن أصيب من الأطفال فلا حرج.
إلى ههنا انتهت المقالة.















مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید