المنشورات

مشاورة مصعب الناس فيمن يكفيه أمر الخوارج

وصار مصعب إلى البصرة، فسأل: من يستكفي أمر الخوارج وفد إلى أخيه? فشاور الناس، فقال قوم: ول عبيد الله بن أبي بكرة. وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم.
وبلغت المشورة الخوارج. فأداروا الأمر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة، أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيع لعسكره؛ وإن جاءكم عمر بن عبيد الله بن معمر أتاكم شجاع بطل فارس جاد، يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه؛ وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه، إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه لا يبدأكم إلا أن تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر1 والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم.
فولى عليهم عمر بن عبيد الله. وولاه فارس، والخوارج بأرجان، وعليهم الزبير بن علي السليطي. فشخص إليهم فقاتلهم، وألح عليهم حتى أخرجهم عنها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعباً ولى عمر بن عبيد الله قال: رماهم بفارس العرب وفتاها.
فجمعوا له وأعدوا واستعدوا، ثم أتوا سابور، فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ. فقال له مالك بن حسان الأزدي: إن المهلب كان يذكي العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم، فقال له عمر: اسكت خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! فأقام هناك. فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشيء. فأقبل على مالك بن حسان فقال: كيف رأيت? قال: قد سلم الله عز وجل، ولم يكونوا يطمعون من المهلب مثلها. فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا لعدو، ولكنكم تقولون: قرشي حجازي بعيد الدار، خيره لغيرنا، فتقاتلون معي تعذيراً.
ثم زحف الخوارج من غد ذلك اليوم، فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى ألجأهم إلى قنطرة. فكاثف الناس عليها حتى سقطت، فأقام حتى أصلحها، ثم عبروا، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل فقال قطري: لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور. ولم يعلم عمر بقتل ابنه؛ حتى أفضى إلى القوم، وكان مع ابنه النعمان بن عباد، فصاح به: يا نعما، أين ابني? فقال: احسبه "أيها الأمير"1 فقد استشهد رحمه الله صابراً مقبلاً غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على الناس حملة لم ير مثلها. وحمل أصحابه بحملته، فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلاً من الخوارج، فلما استقروا قال لهم قطري: أما أشرت عليكم بالانصراف! فجعلوه وجوههم حتى خرجوا من فارس.
وتلقاهم في ذلك الوقت الفرز بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره، وأراد قتله، فأقبل على قطري فقال: إني مؤمن مهاجر. فسأله عن أقاويلهم، فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول في كلمة له:
وشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي2 ... إلى قطري ذي الجبين المفلق
وحاججتهم في دينهم وحججتهم3 ... وما دينهم غير الهوى والتخلق
ثم إنهم تراجعوا وتكانفوا.











مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید