المنشورات

وفود النابغة الجعدي على ابن الزبير

ومن جميل محاورات العرب ما روي لنا عن يحيى بن محمد بن عروة، عن أبيه عن جده، قال: أقحت السنة علينا، النابغة الجعدي، فلم يشعر به ابن الزبير حين صلى الفجر حتى مثل بين يديه يقول:
حكيت لنا الصديق حين وليتنا ... وعثمان والفارق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في العدل فاستووا ... فعاد صباحاً حالك الليل مظلم
أتاك أبو ليلى يشق به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عثمثم
لترفع منه جانباً ذعذعت به ... صروف الليالي والزمان المصمم
فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر، أما صفوة أموالنا فلبني أسد، وأما عفوتها فلآل الصديق، ولك في بيت المال حقان: حق لصحبتك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحق بحقك في المسلمين. ثم أمر له بسبع قلائص وراحلة رحيل. ثم أمر بأن توقر له حباً وتمراً. فجعل أبو ليلى يأخذ التمر فيستجمع به الحب فيأكله، فقال له ابن الزبير: لشد ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى! فقال النابغة: أما على ذاك لسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما استرجمت قريش فرحمت وسئلت فأعطت، وحدثت فصدقت، ووعدت فأنجزت، فأنا والنبي ون على الحوض فراط لقادمين".
قوله: أقحمت السنة يكون على وجهين: يقال: اقتحم إذا دخل قاصداً، وأكثر ما يقال من غير أن يدخل، ويكون من القحمة، وهي السنة الشديدة، وهو أشبه الوجهين، والآخر حسن.
والسنة: الجدب، يقال: أصابتهم سنة إذا أصابهم1 جذب، ومن ذا قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} 2، أي بالجدب.
وقوله: صفوة، فهي في معنى الصفو، وأكثر ما يستعمل الكسر، والباب في المصادر للحال الدائمة الكسر3 كقولك: حسن الجلسة والركبة والمشية3 والنيمة، كأنها خلقة.
والعفوة إنما هو ما عفا، أي ما فضل، {خُذِ الْعَفْوَ} 4، قالوا: الفضل، وكذلك قوله جل اسمه: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 5
وقوله: عثمثم، يريد الموثق الخلق الشديد.
وذعذعت، أي أذهبت ماله وفرقت حاله.
وقوله: راحلة رحيل، أي قوية على الرحلة معودة لها. ويقال: فحل فحيل، أي مستحكم في الفحلة، وفي الحديث أن ابن عمر قال لرجل: اشتر لي كبشاً لأضحي به، أملح، واجعله أقرن فحيلاً.
وقوله: "فأنا والنبي ون على الحوض فراط لقادمين"، الفارط: الذي يتقدم القوم فيصلح لهم الدلاء والأرشية وما أشبه ذلك من أمرهم حتى يردوا، ومن ذلك قول المسلمين في الصلاة على الطفل: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً. وجاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا فرطكم على الحوض". وكان يقال: يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسباً، ومن بيت الله بيتاً. ويقال: إن دار أسد ابن عبد العزى كان يقال لها: رضع الكعبة، وذلك أنها تفيء عليها الكعبة صباحاً، وتفيء على الكعبة عشياً، وإن كان الرجل من ولد أسد ليطوف بالبيت فينقطع شسع نعله فيرمي بنعله في منزله فتصلح له، فإذا عاد في الطواف رمي بها إليه، وفي ذلك يقول القائل:
لهاشم وزهير فضل مكرمة ... بحيث حلت نجوم الكبش والأسد1
مجاور البيت ذي الأركان بيتهما ... ما دونهم في جوار البيت من أحد
وقال آخر:
سمين قريش مانع منك لحمه ... وغث قريش حيث كان سمين
وقال آخر:
وإذا ما أصبته من قريش ... هاشمياً أصبت قصد الطريق
وقال حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي يدعوه إلى حلفه ونزول مكة:
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكنفك الندامى من قريش
وتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتسكن بلدة عزت قديماً ... وتأمن أن يزورك رب جيش
صلاح: اسم من أسماء مكة وكانت بلداً لقاحاً، واللقاح: الذي ليس في سلطان ملك، وكانت لا تغزى تعظيماً لها، حتى كان أمر الفجار، وإنما سمي الفجار لفجورهم إذ قاتلوا في الحرم. وكانت قريش تعز الحليف وتكرم المولى وتكاد تلحقه بالصميم، وكانت العرب تفعل ذلك، ولقريش فيه تقدم.














مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید