المنشورات

مراثي الآباء والإخوة والأبناء

فقد قال أبو خراش الهذلي، وهو أحد حكماء العرب، يذكر أخاه عروة بن مرة:
تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزء لو علمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكن صبري يا أميم جميل
وقال عمرو بن معدي كرب:
كم من أخ لي حازم ... بوأته بيدي لحدا
أعرضت عن تذكاره ... وخلقت يوم خلقت جلدا
وكان يقال: من حدث نفسه بالبقاء، ولم يوطنها على المصائب فعاجز الرأي. 
وعزى رجل رجلاً عن ابنه فقال: أكان يغيب عنك? قال: كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائباً عنك، فإنه إن لم يقدم عليك قدمت عليه.
وقال إبراهيم بن المهدي يذكر ابنه:
وإني وإن قدمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت عنك قريب1
وإن صباحاً نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة خبيب
وكفى باليأس معزياً، وبانقطاع الطمع زاجراً! كما قال الشاعر:
أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبرت مغلوباً وإني لموجع ... كما صبر العطشان في البلد القفر
وقال بعض المحدثين وليس بناقصه حظه من الصواب أنه محدث، يقوله لرجل رثاه [قال أبو الحسن: وهو أبو تمام] :
عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وحدثت أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه عبد الملك خطب الناس فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده، فسوى فيه بين ضعيفهم وقويهم، ورفيعهم ودنيهم، فقال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 2 فليعلم ذوو النهي منهم أنهم صائرون إلى قبورهم، مفردون بأعمالهم. واعلموا أن لله مسألة فاحصة، قال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وله يقول القائل:
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذي الصغير ويولد
هل ابنك إلا من سلالة آدم ... لكل على حوض المنية مورد
وقال رجل من قريش يرثي ابنه [قال أبو الحسن: هو العتبي] :
بأبي وأمي من عبأت حنوطه ... بيدي وودعني بماء شبابه2
كيف السلو وكيف صبري بعده ... وإذا دعيت فإنما أكنى به!
وقال ابن لعمر بن عبد العزيز يرثي عاصم بن عمر:
فإن يك حزن أو تجزع غصة ... أماراً نجيعاً من دم الجوف منقعا
تجرعته في عاصم واحتسيته ... لأعظم منه ما احتس وتجرعا
وقال أبو سعيد إسحاق بن خلف يرثي ابنة أخته، وكان تبناها، وكان حدباً عليها كلفاً بها:
أمست أميمة معموراً بها الرجم ... لقى صعيد عليها الترب مرتكم3
يا شقة النفس إن النفس والهة ... حرى عليك ودمع العين منسجم4
قد كنت أخشى عليها أن تقدمني ... إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
فالآن نمت فلا هم يؤرقني ... يهدا الغيور إذا ما أودت الحرم1
للموت عند أياد لست أنكرها ... أحيا سروراً وبي مما أتى ألم
وهذا المرثية ليست مما تقع مع الجزع القراح والحزن المفرط، ولكنه باب للمراثي يجمع إفراط الجزع، وحسن الاقتصاد، والميل إلى التشكي، والركون إلى التعزي، وقول من كان له واعظ من نفسه، أو مذكر من ربه، ومن غلبت عليه الجساوة2، وكان طبعه إلى القساوة، فقد اختلط كل بكل.
وقال رجل من المحدثين يرثي أباه3:
تحل رزيات وتعرو مصائب4 ... ولا مثل ما أنحت علينا يد الدهر
لقد عركتنا للزمان ملمة ... أذمت بمحمود الجلادة والصبر5
فهذا يحسن من قائله أن الرزء كان جليلاً بإجماع، فللقائل أن يتفسح في القول فيه.
وهذا يقوله عبد العزيز بن عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان عبد الرحيم من جلة أهله لسناً ونعمة وسناً وولاية، ومات معزولاً عن اليمن في حبس الخليفة. وأم جعفر بن سليمان أم حسن بنت جعفر بن حسن بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم. فلذلك يقول عبد العزيز في هذه القصيدة:
بموتك يا عبد الرحيم بن جعفر ... تفاحش صدع الدين عن ألأم الكسر
فيا ابن النبي المصطفى وابن بنته ... ويا ابن علي والفواطم والحبر1
ويا ابن اختيار الله من آل آدم ... أباً فأباً طهراً يؤدي إلى طهر
ويا ابن سليمان الذي كان ملجأ ... لمن ضاقت الدنيا به من بني فهر
ومن ملأ الدنيا سماحاً ونائلاً ... وروى حجيجاً بالملمعة القفر2
لعز بما قد نالنا من رزيئة ... بموتك محبوساً على صاحب القبر
فإن تضح في حبس الخليفة ثاوياً ... أبياً لما يعطي الذليل على القشر
لكم من عدو للخليفة قد هوى ... بكفك أو أعطى المقادة عن صغر
فوا حزناً! لو في الوغى كان موته ... بكينا عليه بالردينية السمر
وكنا وقيناه القنا بنحورنا ... وفات كذا في غير هيج ولا نفر
وحدثت أن عمر بن الخطاب لما ولى كعب بن سور الأزدي قضاء البصرة، أقام عاملاً له عليها إلى أن استشهد، على أنه كان قد عزله ثم رده، فلما قام عثمان بن عفان أقره، فلما كان يوم الجمل خرج مع إخوة له - قالوا ثلاثة، وقالوا أربعة - وفي عنقه مصحف، فقتلوا جميعاً، فجاءت أمهم حتى وقفت عليهم، فقالت:
يا عين جودي بدمع سرب ... على فتية من خيار العرب
وما لهم غير حين النفو ... س أي أميري قريش غلب!
هذه الرواية سرب وقالوا معناه: جار في طريقه، من قولهم: انسرب في حاجته. وبيت ذي الرمة يختار فيه الفتح:
كأنه من كلى مفرية سرب لأنه اسم، والأول المكسور نعت، ويقبح وضع النعت موضع1 المنعوت غير المخصوص.
[قال أبو الحسن: حق النعت أن يأتي بعد المنعوت، ولا يقع في موقعه حتى يدل عليه فيكون خاصاً له دون غيره، تقول: جاءني إنسان طويل، فإن قلت: جاءني طويل لم يجز؛ لأن طويلاً أعم من قولك: إنسان، فلا بدل عليه. فإن قلت: جاءني إنسان متكلم، ثم قلت بعد: جاءني متكلم جاز؛ لأنك تدل به على الإنسان، فهذا شرح قوله: المخصوص] .
وقولها: غير حين النفوس نصب على الاستثناء الخارج من أول الكلام، وقد ذكرناه مشروحاً.
والمراثي كثيرة كما وصفنا، وإنما نكتب منها المختار والنادر والمتمثل به السائر.
فمن مليح ما قيل قول رجل يرثي أباه:
[قال أبو الحسن: يقال إنه2 لأبي العتاهية]
قلب يا قلب أوجعك ... ما تعدى فضعضعك
يا أبي ضمك الثرى ... وطوى الموت أجمعك
ليتني يوم مت صرت ... إلى حفرة معك3
رحم الله مصرعك ... برد الله مضجعك
وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه، وكان مات بالبصرة:
نأى آخر الأيام عنك حبيب ... فللعين سح دائم وغروب1
دعته نوى لا يرتجي أوبة لها ... فقلبك مسلوب وأنت كئيب
يؤوب إلى أوطانه كل غائب ... وأحمد في الغياب ليس يؤوب
تبدل داراً غير داري وجيرة ... سواي، وأحداث الزمان تنوب
أقام بها مستوطناً غير أنه ... على طول أيام المقام غريب
كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى ... سقاه الندى فاهتز وهو رطيب2
كأن لم يكن كالدر يلمع نوره ... بأصدافه لما تشنه ثقوب
كأن لم يكن زين الفناء ومعقل الن ... ساء إذا يوم يكون عصيب
وريحان صدري كان حين أشمه ... ومؤنس قصري كان حين أغيب
وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت ... بحمد إلهي وهي منه سليب
قليلاً من الأيام لم يرو ناظري ... بها منه حتى أغلقته شعوب3
كظل سحاب لم يقم غير ساعة ... إلى أن أطاحته فطاح جنوب
أو الشمس لما من غمام تحسرت ... مساء وقد ولت وحان غروب
سأبكيك ما أبقت دموعي والبكا ... بعيني ماء يا بني يجيب
وما غار نجم أو تغنت حمامة ... أو اخضر في فرع الأراك قضيب
حياتي ما دامت حياتي فإن أمت ... ثويت وفي قلبي عليك ندوب
وأضمر إن أنفدت دمعي لوعة ... عليك لها تحت الضلوع وجيب
دعوت أطباء العراق فلم يصب ... دواءك منهم في البلاد طبيب
ولم يملك الآسون دفعأً لمهجة ... عليها لأشراك المنون رقيب
قصمت جناحي بعد ما هد منكبي ... أخوك، فرأسي قد علاه مشيب
فأصبحت في الهلاك إلا حشاشة ... تذاب بنار الحزن فهي تذوب
توليتما في حقبة فتركتما ... صدى يتولى تارة ويثوب
فلا ميت إلا دون رزئك رزؤه ... ولو فتتت حزناً عليه قلوب
وإني وإن قدمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت منك قريب
وإن صباحاً نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة حبيب
وقال أبو عبد الرحمن العتبي، وتتابع له بنون:
كل لساني عن وصف ما أجد ... وذقت ثكلا ما ذاقه أحد
وأوطنت حرقة حشاي فقد ... ذاب عليها الفؤاد والكبد
ما عالج الحزن والحرارة في ... الأحشاء من لم يمت له ولد
فجعت باثنين ليس بينهما ... إلا ليال ليست لها عدد
فكل حزن يبلى على قدم الد ... هر وحزني يجده الأبد
وذكر بعض الرواة أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان عاملاً لعلي بن أبي طالب على اليمن، فشخص إلى علي، واستخلف على اليمن عمرو بن أركة الثقفي، فوجه معاوية إلى اليمن ونواحيها بسر بن أرطاة، أحد بني عامر ابن لؤي، فقتل عمرو بن أراكة، فجزع عليه عبد الله أخوه جزعاً شديداً، فقال أبوه:
لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى ... به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الشؤون بأسره ... ولو كنت تمهرين من ثبج البحر
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً ... بصنعاء كالليث الهزبر أبي أجر
وقلت لعبد الله إذ حن باكياً ... تعز، وماء العين منهمر يجري
تبين فإن كان البكار رد هالكا ... على أهله فاشدد بكابك على عمرو
ولاتبك ميتاً بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
قوله: من ثبج البحر فثبج كل شيء وسطه، ويروى في الحديث1: كنت إذا ُفاتحت الزهري فتحت منه ثبج البحر. وقوله: تمريهن هو مثل، يقال: "مريت الناقة" إذا مسحت ضرعها لتدر، فإنما هو استخراج اللبن، ويقال: "مريت برجلي الأرض"، إذا مسحتها، والأصل ذلك، فإنما أراد: ولو كنت تستخرج الدموع من ثبج البحر.
وكان بسر بن أرطاة ي تلك الحروب أرشد على ابنين لعبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب، هما، طفلان أمهما من بني الحارث بن كعب، فوارتهما الحارثية، فيقال إنه أخذهما من تحت ذيلها فقتلهما، ففي ذلك تقول الحارثية:
ألا من بين الأخوين ... أمهما هي الثكلى
تسائل من رأى ابنيها ... وتستبغي فما تبغى
وفي ذلك تقول أيضاً:
يا من أحسن بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف2
يا من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف
يا من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف1
نبئت بسراً، وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي طفلي مرهفة ... مشحوذة، وعظيم الإفك يقترف
من دل والهة حرى مفجعة ... على صبيين غابا إذ مضى السلف
ويرى أن معاوية لما أتاه موت عتبة تمثل:
إذا سار من خلف امرئ وأمامه ... وأوحش من أصحابه فهو سائر
فلما أتاه موت زياد تمثل:
وأفردت سهماً في الكنانة واحداً ... سيرمي به أو يكسر السهم كاسر
وماتت امرأة للفرزدق بِجُمع ومعنى جمع ولدها في بطنها وإن شئت قلت: جِمعٌ يا فتى، فقال الفرزدق:
وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أنسأته لياليا!
وهذا من البغي في الحكم والتقدم.
وقال رجل من المحدثين في ابنين لعبد الله بن طاهر أصيبا في يوم واحد وهما طفلان شبيهاً بهذا، ولكنه اعتذر فحسن قوله وصح معناه باعتذاره، وهو الطائي:
لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید