المنشورات

ليلى الأخيلية في رثاء توبة

وقالت ليلى الأخيلية:
دعا قابضاً والمرهفات ينشنه ... فقبحت مدعواً ولبيك داعيا!
فليت عبيد الله كان مكانه ... صريعأً ولم أسمع لتوبة ناعيا
وكان سبب هذا الشعر أن توبة بن حمير العقيلي ثم الخفاجي، غزا فغنم، ثم انصترف فعرس1 في طريقه فأمن فقال2، فندت فرسه، فأحاط به عدوه، ومعه عبيد الله أخوه وقابض مولاه، فدعاهما، فذبب عبيد الله شئياً وانهزما وقتل توبة، ففي ذلك تقول ليلى الأخيلية:
أعيني ألا فابكي على ابن حمير ... بدمع كفيض الجدول المتفجر
لتبك عليه من خفاجة نسوة ... بماء شؤون العبرة المتحدر
سمعن بهيجا أزحفت فذكرنه ... وقد يبعث الأحزان طول التذكر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغور
ولم يرد الماء السادام إذا بدا ... سنا الصبح في أعقاب أخضر مدبر
ولم يقدع الخصم الألد ويملإ ... الجفان سديفاً يوم نكباء صرصر
ألا رب مكروب أجبت وخائف ... أجرت ومعروف لديك ومنكر
فيا توب للمولى ويا توب للندى ... ويا توب للمستنبح المتنور
قولها:
لتبك عليه من خفاجة نسوة
تعني، خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والهيجاء تمد وتقصر، وقد مر هذا. وقولها:
بنجد ولم يطلع مع المتغور فالنجد كل ما أشرف من الأرض، والغور كل ما انخفض، ويقال: ماء سدام ومياه سدم، وهي القديمة المندفقة، قال الشاعر:
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل ... قلائص تحدى في طريق طلائح
وسنا الصبح: ضوؤه، وهو مقصور، فإذا أردت الحسب مددت. والأخضر: الذي ذكرت: الليل، والعرب تسمي الأسود أخضر، وقولها: ولم يقدع الخصم الألد، فالألد الشديد الخصام. والسديف: شقق السنام.
والنكباء: الريح بين الريحين الشديدة الهبوب.
والصرصر: الشديدة الصوت. والمستنبح: الذي يسري فلا يعرف مقصداً فينبح لتجيبه الكلاب فيقصدها.
والمتنور: الذي يلتمس ما يلوح له من النار فيقصده. قال الأخطل يعير جريراً.
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
فيقال إن جريراً توجع من هذا البيت، وقال: جمع بهذه الكلمة ضروباً من الهجاء والشتم؛ منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذالها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء، ومنها السوءة التي ذكرها من الوالدة.
وقال آخر:
وإني لأطوي البطن من دون ملئه ... لمختبط في آخر الليل نابح
وإن امتلاء البطن في حسب الفتى ... قليل الغناء وهو الجسم صالح1
وقالت ليلى الأخيلية:
نظرت وركن من بوانة دوننا ... وأركان حسمى أي نظرة ناظر! 2
إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيرة ... لعاقرها فيها عقيرة عاقر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر
ولم يبن أبراداً رقاقاً لفتية ... كرام ويرحل قبل فيء الهواجر
فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالاً دون جار مجاور
وكنت إذا مولاك خاف ظلامة ... دعاك ولم يقنع سواك بناصر
قولها: أي نظرة ناظر؛ يصلح فيه الرفع، والنصب على قوله: نظرت أي وتأويله مررت برجل كامل، فأيما في موضع كامل، وتقول: مررت بزيد أيما مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة ناظر فعلى القطع والابتداء، والمخرج مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة هي! كما تقول: سبحان الله، أي رجل زيد! وهذا البيت ينشد على وجهين:
فأومأت إيماء خفيا لحبتر ... وللله عينا حبتر أيما فتى
وأيما إن شئت على ما فسرنا.
وقولها:
إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيره
شأوها: طلقها1
وقولها:
لعاقرها فيها عقيرة عاقر
أي قد أصابوا عقيرة نفيسة؛ كقول القائل: نعم غنيمة المغتنم، وكقولهم: عقيرة وكما تكون. وهذا نظير قوله:
ولما أصابوا نفس عمرو بن عامر ... أصابوا به وتراً ينيم ذوي الوتر
يقال: ثأر منيم، إذا أصابه المثئر هدأ واستقر، لأنه أصاب كفؤاً، وهذا خلاف قول الآخر:
قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا ... للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
وخلاف قول الحارث بن عباد:
لا بجير أغنى قتيلاً ولا رهـ ... ـط كليب تزاجروا عن ضلال
ولكن كما قال دريد بن الصمة:
قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا
وكما قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيمي، من بني تيم اللآت بن ثعلبة، حيث قتل مصعب بن الزبير بأخيه النابي بن زياد:
لسار على رغم العدو وغادي ... أن عبيد الله ما دام سالماً
ونحن قتلنا ابن الزبير ورأسه ... حززنا برأس النابي بن زياد
كسر الياء على الأصل، كما قال ابن قيس الرقيات:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب
ومن أخذه من نبأت على القوم، أي طلعت عليهم، فلا علة فيه ولا ضرورة.
[قال الأخفش: المعروف فيه الهمز، والمبرد لم يهمزه، فإنما أخذه من نبا ينبو، فصار مثل رام وقاض وما أشبههما] .
وقال أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري، لما قتلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بخالد بن عبد الله:
فإن تقتلوا منا كريما فإننا ... قتلنا أمير المؤمنين بخالد
وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا وليداً عن بناء الولائد
تركنا أمير المؤمنين بخالد ... مكباً على خيشومه غير ساجد
وقال الخزاعي1 بعد:
قتلنا بالفتى القسري منهم ... وليدهم أمير المؤمنينا
ومرواناً قتلنا عن يزيد ... كذاك قضاؤنا في المعتدينا
وبابن السمط منا قد قتلنا ... محمداً بن هارون الأمينا
فمن يك قتله سوقاً فإنا ... جعلنا مقتل الخلفاء دينا
وقولها: ويرحل قبل فيء الهواجر تريد أنه متيقظ ظعان والمولى في قولها: إذا مولاك خاف ظلامة يحتمل ضروباً، فالمولى ابن العم، وقوله عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 2؛ يريد بني العم؛ قال الفضل بن العباس:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
ويكون المولى المعتق؛ ويكون المولى من قوله جل ثناؤه: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 3 ويكون المولى الذي هو أحق وأولى منه قوله: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} 4، أي أولى بكم. والمولى: المالك. وقولها: ولم يبن أبراداً تريد الخيام.
قال أبو العباس: وكانت الخنساء وليلى بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك، والجملة ما قال الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 5.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن المرأة خلقت من ضلع عوجاء، وإنك إن ترد إقامتها، تكسرها، فدارها تعش بها".
فممن ندر1 من النساء في باب من الأبواب: أم أيوب الأنصارية2، أم الدرداء3، ورابعة القيسية4 ومعاذة العدوية5، فإن هؤلاء النسوة تقدمن في الفضل والصلاح، على تقدم بعضهن بعضاً.
حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي، قال: وكانت تصير إلي هاشمية جارية حمدونة في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر عن فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفاً من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها، واقتدارها على أن تجري على لسانها ما في قلبها.
وكذلك ما يؤثر عن خالصة وعتبة جاريتي ربطة بنت أبي العباس. فأما النساء الأشراف فإن القول فيهن كثير متسع.














مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید