المنشورات

مراثي الخنساء

فمما ندر من شعر الخنساء قولها ترثي صخراً:
يا صخر وراد ماء قد تناذره1 ... أهل المياه وما في ورده عار
مشى السبنتى إلى هيجاء معضلة ... له سلاحان: أنياب وأظفار2
وما عجول على بو تحن له ... لها حنينان: إغلان وإسرار
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
يوماً بأوجع مني يوم فارقني ... صخر، وللعيش إخلاء وإمرار
وإن صخراً لوالينا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلي بيته الجار
قولها:
يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل المياه وما في ورده عار
تعني الموت، أي لإقدامه على الحرب.
والسبنتي والسبندي واحد، وهو الجريء الصدر، وأصله في النمر.
والعجول: التي فارقها ولدها.
والبو، قد مضى تفسيره، وكذلك فإنما هي إقبال وإدبار، وقد شرحنا كيف مذهبه في النحو.
وقولها: إلى هيجاء معضلة تعني الحرب.
وقولها: بأنه علم في رأسه نار فالعلم الجبل، قال الله جل وعز: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} 1} ، وقال جرير2:
إذا قطعن علماً بدا علم
ومن حسن شعرها قولها:
أعيني جوداً ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
يكلفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
قولها: طويل النجاد، النجاد: حمائل السيف، تريد بطول نجاده طول قامته، وهذا مما يمدح به الشريف، قال جرير:
فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
وقال مروان لأمير المؤمنين المهدي1:
قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تألق قينها فأطالها
وقال رجل من طيئ:
جدير أني يقل السيف حتى ... ينوس إذا تمطى فقي النجاد2
وقال الكمي [أبو نواس] 3:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام
وقال عنترة:
بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم4
وقولها: رفيع العماد إنما تريد ذاك، يقال: رجل معمد، أي طويل، ومنه قوله عز وجل: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 5، أي الطوال.
وقولها: ما عالهم أي ما نابهم ونزل بهم، تقول العرب: ما عالك فهو عائلي، أي ما نابك فهو نائبي، ومن ذا قول كثير:
يا عين بكي للذي عالني ... منك بدمع مسبل هامل
ومن جيد قولها:
أبعد ابن عهمرو من آل الشريد ... حلت به الأرض أثقالها
لعمر أبيه لنعم الفتى ... إذا النفس أعجبها ما لها
فإن تك مرة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها
فخر الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها!
لأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها
قولها: حلت به الأرض أثقالها حلت من الحلي1، تقول: زينت به الأرض الموتى. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 2، قالوا الموتى.
وقولها: لنعم الفتى إذا النفس أعجبها ما لها؛ تقول: يجود بما هو له في الوقت الذي يؤثره أهله على الحمد.
والشوامخ: الجبال، والشامخ: العالي، ويقال للمتكبر: شمخ بأنفه.
وقولها: على آلة أي على حالة وعلى خطة، هي الفصيل، فإما ظفرت وإما هلكت.
وقولها: فأولى لنفسي أولى لها، يقول الرجل إذا حاول شيئاً فأفلته من بعد ما كاد يصيبه: أولى له! وإذا أفلت من عظيمة قال: أولى لي! ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول إذا مات ميت في جواره أو في داره: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم، وقد مضى هذا مفسراً.
وأنشد لرجل يقتنص، فإذا أفلته الصيد، قال: أولى لك! فكثر ذلك منه فقال:
فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم1 ... ولكن أولى يترك القوم جوعا
وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية بن عمرو - وكان معاوية أخاها لأبيها وأمها، وكان صخر أخاها لأبيها، وكان أحبهما إليها بعيداً2، وكان صخر يستحق ذلك منها بأمور: منها أنه كان موصوفاً بالحلم، ومشهوراً بالجود، ومعروفاً بالتقدم في الشجاعة، ومحظوظاً في العشيرة -:
أريقي من دموعك واستفيقي ... وصبراً إن أطقت، ولن تطيقي
وقولي إن خير بني سليم ... وفارسها بصحراء العقيق
ألا هل ترجعن لنا الليالي ... وأيام لنا بلوى الشقيق3
وإذ نن الفوارس كل يوم ... إذا حضروا وفتيان الحقوق
وإذ فينا معاوية بن عمرو ... على أدماء كالجمل الفنيق4
فبكيه فقد أودى حميداً ... أمين الرأي محمود الصديق
فلا واله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق
ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق
قولها:
أريقي من دموعك واستفيقي
معناه أن الدمعة تذهب الوعة
ويروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال عند موت ابنه أيوب، لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك الصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته، فقال له رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه إبراهيم، وقال: "العين تدمع، والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا يا إبراهيم لمحزونون" فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أرباً، ثم أقبل عليهما فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم لم يبك بعدها، ولكنه تمثل عند قبره لما دفنه وحثا على قبره التراب، وقال: يا غلام، دابتي، ثم التفت1 إلى قبره، فقال:
وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
رجعنا إلى تفسير قولها: وقولها:
وصبراً إن أطقت ولن تطيقي
كقول القائل: إن قدرت على هذا فافعل، ثم أبانت عن نفسها فقالت: ولن تطيقي.
وقولها:
فلا والله لا تسلاك نفسي
تريد: لا تسلو عنك, كقوله عزوجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 2, أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقولها:
لفاحشة أتيت ولا عقوق
معناه: لا أجد فيك ما تسلو نفسي عنك له، ثم اعتذرت من إقصارها بفضل الصبر، فقالت:
ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق
تأويل النعلين أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميم جعلت في يديها نعلين تصفق1 بهما وجهها وصدرها.
قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حلية لا رطبا ولا نقدا
إذا تأوب نوح قامتا معه ... ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا
قوله:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما
يعني أختيه، يقول: ماذا يرد عليهما العويل والسهر!
وقوله:
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً
أراد لترديد النائحة صوتاً كأنه زمير، وإنما يعني بالقصب المزامير، كما قال الراعي:
زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصبا ومقنعة الحنين عجولا
[قال الأخفش: الزجل: اختلاط الصوت الذي لصوته تطريب. والحيزوم: الصدر, وقصبا يعني زمارا2, شبه صوت الحادي بالمزمار, ومقنعة، أراد: وصوت مقنعة، يعني ناقة، ثم حذف الصوت وأقام مقنعة مقامه.
وقال عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم
قال الأصمعي: نرمناي1
وقوله: لا رطبا ولا نقدا يقول: ليس برطب لا يبين فيه الصوت ولا بمؤتكل، يقال: نقدت السن، إذا مسها ائتكال، وكذلك القرن، قال الشاعر2:
يألم قرناً أرومه نقد
وقوله: بسبت يعني النعل المنجردة.
ويلعج: يؤثر، واحتاج إلى تحريك الجلد فأتبع آخره أوله، وكذلك يجوز في الضرورة في كل [شيء] 3 ساكن. وأما قول الفرزدق:
خلعن حليهن فهن عطل ... وبعن به المقابلة التؤاما4
يعني اشترين النعال، فليس [هذا] 5 من هذا الباب، وإنما سبين فاشترين نعالاً للخدمة.
وكذلك قوله:
أجذن حريرات وأبدين مجلداً ... ودارت عليهن المنقشة الصفر6
يعني القداح، يقول: سبين فاقتسمن بالقداح.
وإنما قالت الخنساء هذا الشعر في معاوية أخيها قبل أن يصاب صخر أخوها، فلما أصيب صخر نسيت به من كان قبله.
وكان معاوية فارساً شجاعاً، فأغار في جمع من بني سليم على غطفان، وكان صميم خليهم فنذر به1 القوم فاحتربوا، فلم يزل يطعن فيهم ويضرب، فلما رأوا ذلك تهيأ له ابنا حرملة: دريد، وهاشم، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية فطعنه، وخرج عليه الآخر وهو لا يشعر فقتله، فتنادى القوم: قتل معاوية! فقال خفاف بن ندبة: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به! فحمل على مالك بن حمار، وهو سيد بني شمخ بن فزارة، فطعنه فقتله، وقال:
فإن تك خليلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت مالكا
وقفت له علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجداً أو لأثأر هالكا2
أقول له والرمح يأطر متنه3 ... تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا
فلما دخلت الأشهر الحرم ورد عليهم صخر، فقال: أيكم قاتل أخي? فقال أحد ابني حرملة للآخر: خبره. فقال: استطردت له فطعنني هذه الطعنة، وحمل عليه أخي فقتله، فأينا قتلت فهو ثأرك، أما إنا لم نسلب أخاك. قال: فما فعلت فرسه السمى? قالوا: ها هي تلك فخذها، فانصرف بها، فقيل لصخر: ألا تهجوهم? قال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن سبهم إلا صيانة للساني عن الخنا لفعلت، ثم خاف أن يظن به عي فقال:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي إذ أهجوهم ثم ماليا!
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب الناس عني معاويا4
وهون وجدي أنني لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا
قال أبو عبيدة: فلما أصاب دريداً زاد فيها:
وذي رحم قطعت أرحام بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخا ليا1
[قال أبو الحسن الأخفش: وزادني الأحول بعد قوله: معاويا:
لنعم الفتى أدنى ابن صرمة بزه ... إذا راح فحل الشول أجدب عاريا] 2
قال أبو العباس: فلما انقضت الأشهر الحرم جمع لهم ليغير عليهم، فنظرت غطفان إلى خليه بموضعها، فقال بعضهم لبعض: هذا صخر بن الشريد على فرسه السمى، فقيل: كلا! السمى غراء3، وهذه بهيمة3، وكان قد حمم غرتهم، فأصاب فيهم، وقتل دريد بن حرملة. وأما هاشم، فإن قيس بن الأسوار الجشمي - من بني جشم بن بكر بن هوازن بن خصفة بن منصور، والخنساء من بني سليم بن منصور - لقيهم منصرفين؛ كل واحد منهم من وجهه، فرآه، وقد انفرد لحاجته، فقال: لا أطلب بمعاوية بعد اليوم، فأرسل عليه سهماً ففلق قحقحه4 فقتله، فقالت الخنساء:
فدى للفارس الجشمي نفسي ... وأفديه بمن لي من حميم
فداك الحي حي بني سليم ... بظاعنهم وبالأنس المقيم
كما من هاشم أقررت عيني ... وكانت لا تنام ولا تنيم5
فأما صخر فسندرك مقتله مع انقضاء ما نذكر من مراثي الخنساء إياه، قالت الخنساء:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... لقد أضحكتني دهراً طويلا
بكيتك في نساء معولات ... وكنت أق من أبدى العويلا
دفعت بك الجليل وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا!
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقالت أيضاً:
تعرفني الدهر نهساً وحزا ... وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا1
وأفنى رجالي فبادوا معاً ... فأصبح قلبي بهم مستفزا
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
وكانوا سراة بني مالك ... فخر العشيرة مجداً وعزا2
وهم في القديم سراة الأديم ... والكائنون من الخوف حرزا3
وهم منعوا جارهم والنسـ ... ـاء يحفز أحشاءها الخوف حفزا
عداة لقوهم بملومة ... رداح تغادر للأرض ركزا4
وخيل تكدس بالدارعين ... تحت العجاجة يجمزن جمزا5
ببيض الصفاح وسمر الرماح ... فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا6
جزرنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون ألا تجزا
ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بألا يصاب فقد ظن عجزا
نعف ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد ذخراً وكنزا
ونلبس طوراً ثياب الوغى ... وطوراً بياضاً وعصباً وخزا1
وكان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشريد، أنه جمع جمعاً وأغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به فالتقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فارفض أصحاب صخر عنه. وطعن طعنة2 في جنبه استقل بها، فلما صار إلى أهله تعالج منها، فنتأ من الجرح كمثل اليد فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلاً يسأل امرأته وهو يقول: كيف صخر اليوم? فقالت: لا ميت فينعى، ولا صحيح فيرجى! فعلم أنها قد برمت به، ورأى تحرق أمه عليه، فقال:
أرى أم صخر ما تجف دموعها ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنارة ... عليك، ومن يغتر بالحدثان!
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
لعمري لقد أنبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
فأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقي وهوان
ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فبكاها فقال:
أيا جارتا إن الخطوب قريب ... من الناس، كل المخطئين تصيب
أيا جارتا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب
كأني وقد أدنوا إلي شفارهم ... من الأدم مصقول السراة نكيب
















مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید