المنشورات

القسوة عند الموت

ومن ظهرت منه عند الموت قسوة حلحلة الفزاري، وسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن الفزاري، فإن عبد الملك لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحة: صبراً حلحل! فقال إي والله:
أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني زوره للمبرك1
ثم قال لابن الأسود الكلبي: أجد الضربة، فإني والله ضربت أباك ضربة أسلحته، فعددت النجوم في سلحته. ثم قال عبد الملك لسعيد بن أبان: صبراً سعيد! فقال: إي والله!.
أصبر من عود بجنبيه الجلب ... قد أثر البطان فيه والحقب1
ومنهم وكيع بن أبي سود، أحد بني غدانة بن يربوع، فإنه لما يئس منه خرج الطبيب من عنده، فقال له محمد ابنه: ما تقول? فقال: لا يصلي الظهر، وكان محمد ناسكاً، فدخل إلى أبيه، فقال له أبوه وكيع: ما قال لك المعلوج? قال: وعد أنك تبرأ، قال: أسألك بحقي عليك! قال: ذكر أنك لا تصلي الظهر، قال: ويلي على ابن الخبيثة! والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر.
ويروى أن إبراهيم النخعي قال في الحديث الذي ذكرناه: والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة. وفي وكيع بن أبي سود يقول الفرزدق:
لقد رزئت بأساً وحزماً وسودداً ... تميم بن مر يوم مات وكيع
وما كان وقافاً وكيع إذا دنت ... سحائب موت وبلهن نجيع
إذا التقت الأبطال أبصرت لونه ... مضيئاً وأعناق الكماة خضوع
فصبراً تميم إنما الموت منهل ... يصير إليه صابر وجزوع
وقال أيضاً:
لتبك وكيعاً خيل ليل مغيرة ... تساقي المنايا بالردينية السمر2
لقوا مثلهم فاستهزموهم بدعوة ... دعوها وكيعاً والجياد بهم تجري1
ومن الجفاة عند الموت هدبة نب خشرم العذري، وكان قتل زيادة بن زيد العذري، فلما حمل إلى معاوية، تقدم معه عبد الرحمن أخو زيادة بن زيد، فادعى عليه، فقال له معاوية: ما تقول? قال: أتحب أن يكون الجواب شعراً أم نثراً? قال: بل شعراً فإنه أمتع، فقال هدبة:
فلما رأيت أنما هي ضربة ... من السيف أو إغضاء عين على وتر
عمدت لأمر لا تعير والدي ... خزايته ولا يسب به قبري2
رمينا فرامينا فصاد سهمنا ... منية نفس في كتاب وفي قدر
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من معدى ولا عنك من قصر3
فإن تك في أموالنا لا نضق بها ... ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصبر4
فقال له معاوية: أراك قد أقررت يا هدبة! قال: هو ذاك، فقال عبد الرحمن: أقدني، فكره ذاك معاوية وضن بهدبة عن القتل - وكان ابن زيادة صغيراً - فقال له معاوية: أوما عليك أن تشفي صدرك وتحرم غيرك! ثم وجه به إلى المدينة فقال: يحبس إلى أن يبلغ ابن زيادة، فبلغ.
وكان والي المدينة سعيد بن العاصي، فمما وقف عليه من قسوته قوله:
ولما دخلت السجن يا أم مالك ... ذكرتك والأطراف في حلق سمر
وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك إن الأمر يذكر بالأمر
فسئل عن هذا القول، فقال: لما رأيت ثغر سعيد - وكان سعيد حسن الثغر جداً - وذكرت به ثغرها.
ويقال إنه عرض على ابن زيادة عشر ديات فأبى إلا القود، وكان ممن عرض الديات عليه ممن ذكر لنا، الحسين بن علي وعبيد الله بن جعفر، عليهما السلام، وسعيد بن العاصي، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من قريش والأنصار، فلما خرج به ليقاد بالحرة جعل ينشد الأشعار، فقالت له حبى المدينية: ما رأيت أقسى قلباً منك! أتنشد الأشعار وأنت يمضى بك لتقتل، وهذه خلفك كأنه ظبي عطشان تولول! تعني امرأته، فوقف ووقف الناس معه، فأقبل على حبى فقال:
ما وجدت وجدي بها أم واحد ... ولا وجد حبي بابن أم كلاب
رأته طويل الساعدين شمردلا ... كما انتعتت من قوة وشباب1
فأغلقت حبى الباب في وجهه وسبته.
وعرض له عبد الرحمن بن حسان، فقال: أنشدني، فقال له: أعلى هذه الحال! قال: نعم، فأنشده:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتبغى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وحربني مولاي حتى غشيته ... متى ما يحربك ابن عمك تحرب2
فلما قدم نظر إلى امرأته، فدخلته غيرة، وقد كان جدع في حربهم، فقال:
فإن يك أنفي بان منه جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدعا
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
فقالت: قفوا عنه ساعة، ثم مضت ورجعت وقد اصطلمت أنفها! فقالت: أهذا فعل من له في الرجال حاجة! فقال: الآن طاب الموت، ثم أقبل على أبويه فقال:
أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً منكما اليوم لشر
ما أظن الموت إلا هيناً ... إن بعد الموت دار المستقر
ثم قال:
أذا العرش إني عائذ بك مؤمن ... مقر بزلاتي إليك فقير
وإني وإن قالوا أمير مسلط ... وحجاب أبواب لهن صرير
لأعلم أن الأمر أمرك إن تدن ... فرب وإن تغفر فأنت غفور
ثم قال لابن زيادة: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني أيتمتك صغيراً، وأرملت أمك شابة.
وبزعم بعض أصحاب الأخبار أنه قال: ما أجزع من الموت، وآية ذلك أني أضرب برجيل اليسرى بعد القتل ثلاثاً؛ وهو باطل موضوع، ولكن سأل فك قيوده، ففكت، فذلك حيث يقول:
فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد












مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید