المنشورات

رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله القسري

قال أبو العباس: وقد ذكرنا1 رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله، وإنا سنذكرها بتمامها في غير الموضع2 الذي ابتدأنا وذكرها أولاً فيه، وكان سبب هذه الرسالة إفراط خالد في الدالة على هشام، وأنه أخذ ابن حشان النبطي فضربه بالسياط، وكان يقال له سهيل، قال: فبعث بقميصه إلى أبيه وفيه آثار الدم، فأدخله أبوه إلى هشام، مع ما قد أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالة، واحتجان الأموال، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق، فكتب هشام إلى خالد:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك، إلا لما أحب من رب3 الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك, وكان أمير المؤمنين أحق من استصلح ما فسد عليه منك، فإن تعد لمثل مقالتك وما بلغ أمير المؤمنين عنك، رأى في معالجتك بالعقوبة رأيه.
إن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستقل العافية، ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته، فإذا نزلت به الغير، وانكشطت عنه عماية الغي والسلطان، ذل منقاداً، وندم حسيراً، وتمكن منه عدوه قادراً عليه قاهراً له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك. وعظيم زللك، حيث تقول لجلسانك: والله ما زادتني ولاية العراق شرفاً، ولا ولاني أمير المؤمنين شيئاً لم يكن من قبلي ممن هو دوني يلي مثله! ولعمري لو ابتليت ببعض مقاوم الحجاج في أهل العراق، في تلك المضايق التي لقي، لعلمت أنك رجل من بجيلة، فقد خرج عليك أربعون رجلاً فغلبوك على بيت مالك وخزائنك، حتى قلت: أطعموني ماء؛ دهشاً وبعلاً1 وجبناً، فما استطعتهم إلا بأمان. ثم أخفرت ذمتك، منهم رزين وأصحابه.
ولعمري أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك في مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك، فحل العقدة، ونفض الصنيعة، وردك إلى منزلة أنت أهلها، كنت لذلك مستحقاً؛ فهذا جدك يزيد بن أسد قد حشد مع معاوية في يوم صفين، وعرض له دينه ودمه، فما اصطنع إلا عنده، ولا ولاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولاك، وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك، من كندة وغسان وآل ذي يزن وذي كلاع وذي رعين، في نظرائهم من بيوتات قومهم، كلهم أكرم أولية، وأشرف أسلافاً، من آل عبد الله بن يزيد.
ثم أثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك، وتتقدمك في المحفل والمجامع عند بدأة الأمور وأبواب الخلفاء، ولولا ما أحب أمير المؤمنين من رد غربك؛ لعاجلك بالتي كانت أهلها، وإنها منك لقريب مأخذها، سريع مكروهها. فيها، إن أبقى الله أمير المؤمنين، زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك، فيما ضيعت وارتكبت بالعراق، من استعانتك بالمجوس والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة1 خراجهم، وتسلطهم عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت2 عنك، فبئس الجنين أنت يا عدي نفسه!.
وإن الله عز وجل لما رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك، حتى قبحت أمورك عنده، وآيسه من شكرك ما ظهر من كفرك النعمة عندك، فأصبحت تنظر سقوط النعمة، وزوال الكرامة، وحلول الخزي، فتأهب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد، ولما عملت أكره، فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكتك، إلا راتباً3 بين يديه، وعنده من يقررك بها ذنباً ذنباً، ويبكتك بما أتيت أمراً أمراً، فقد نسيته وأحصاه الله عليك، ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك فيما عرفك به من التسرع إلى حماقتك في غير واحدة.
منها القرشي4 الذي تناولته بالحجاز ظالماً، فضربك الله بالسوط الذي ضربته به مفتضحاً على رؤوس رعيتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك، فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو! ومن ذلك ذكرك زمزم، وهي سقيا الله وكرامته لعبد المطلب وهذا الحي من قريش تسميها أم جعار5؛ فلا سقاك الله من حوض رسوله، وجعل شركما لخيركما الفداء، ووالله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على صنف نحائزك وسوء تدبيرك إلا بفسالة دخائلك وبطانتك وعمالك، والغالبة عليك جاريتك الرائفة6، بائعة الفهود ومستعملة الرجال، مع ما أتلفت من مال الله في المبارك1، فإنك ادعيت أنك أنفقت عليه اثني عشر ألف ألف درهم. والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك، تجمع إليك الدهاقين2 هدايا النيروز والمهرجان، حابساً لأكثره، رافعاً لأقله، مع مخابث مساويك التي قد أخر أمير المؤمنين تقريك بها، ومناصبتك أمير المؤمنين في مولاه حسان، ووكيله في ضياعه وأحوازه في العراق، وإقدامك على ابنه بما أقدمت به، وسيكون لأمير المؤمنين في ذلك نبأ إن لم يعف عنك، ولكنه يظن أن الله طالبك بأمور أتيتها، غير تارك لتكشيفك عنها، وحملك الأموال ناقصة عن وظائفها التي جباها عمر بن هبيرة، وتوجيهك أخاك أسداً إلى خراسان، مظهراً العصبية بها، متحاملاً على هذا الحي من مضر، قد أتت أمير المؤمنين بتصغيره بهم واحتصاره لهم وركوبه أياهم الثقات، ناسياً لحديث زرنب3 وقصص الهجريين كيف كانت في أسد بن كرز، فإذا خلوت أو توسطت ملأ فاعرف نفسك، وخف رواجع البغي عليك وعاجلات النقم فيك.
واعلم أن ما بعد كتاب أمير المؤمنين هذا أشد عليك، وأفسد لك، وقبل أمير المؤمنين خلف منك كثير، في أحسابهم وبيوتاتهم وأديانهم، وفيهم عوض منك، والله من وراء ذلك.
وكتب عبد الله بن سالم سنة تسع عشرة ومائة.
4وهذا باب من متنخل طريف الشعر وذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون4.
قال أبو العباس: هذا الكتاب قد وفيناه جميع حقوقه، ووفينا بجميع شروطه، إلا ما أذهل عنه النسيان، فإنه قلما يخلى من ذلك، ونحن خاتموه بأشعار طريفة، وآخر ذلك الذي نختم به آيات من كتاب الله عز وجل، بالتوقيف على معانيها إن شاء الله.














مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید