المنشورات

جبل هوى

(الكامل)
توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب في شوال سنة 384، وكان بينه وبين الشريف مودة ومراسلة، فرثاه بهذه القصيدة.
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النّادي
جبل هوى لو خرّ في البحر اغتدى ... من وقعه متتابع الإزباد
ما كنت أعلم قبل حطّك في الثّرى ... أنّ الثرّى يعلو على الأطواد
بعدا ليومك في الزّمان، فإنّه ... أقذى العيون وفتّ في الأعضاد
لا ينفد الدّمع الذي يبكى به ... إنّ القلوب له من الأمداد
كيف انمحى ذاك الجناب وعطّلت ... تلك الفجاج وضلّ ذاك الهادي
طاحت بتلك المكرمات طوائح، ... وعدت على ذاك الجواد عوادي
قالوا: أطاع وقيد في شطن الرّدى ... أيدي المنون ملكت أيّ قياد (1)
من مصعب لو لم يقده إلهه ... بقضائه ما كان بالمنقاد (2)
هذا أبو إسحق يغلق رهنه ... هل ذا يد، أو مانع، أو فاد (3)
لو كنت تفدى لافتدتك فوارس ... مطروا بعارض كلّ يوم طراد
وإذا تألّق بارق لوقيعة، ... والخيل تفحص بالرّجال بداد (4)
سلّوا الدّروع من العباب، وأقبلوا ... يتحدّبون على القنا الميّاد
لكن رماك مجبّن الشّجعان عن ... إقدامهم، ومضعضع الأنجاد
كاللّيث يوهن بالتّراب، ويمتلي ... نوما على الأضغان والأحقاد
والدّهر تدخل نافذات سهامه ... مأوى الصّلال ومربض الآساد
ألقى الجران على عنطنط حمير، ... فمضى، ومدّ يدا لأحمر عاد (5)
أعزز عليّ بأن أراك، وقد خلت ... من جانبيك مقاود العوّاد
أعزز عليّ بأن يفارق ناظري ... لمعان ذاك الكوكب الوقّاد
أعزز عليّ بأن نزلت بمنزل ... متشابه الأمجاد والأوغاد
في عصبة جنبوا إلى آجالهم، ... والدّهر يعجلهم عن الإرواد (6)
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم ... من غير أطناب، ولا أوتاد
ركب أناخوا لا يرجّى منهم ... قصد لإتهام، ولا إنجاد
كرهوا النّزول، فأنزلتهم وقعة ... للدّهر باركة بكلّ مقاد
فتهافتوا عن رحل كلّ مذلّل، ... وتطاوحوا عن سرج كلّ جواد
بادون في صور الجميع، وإنّهم ... متفرّدون تفرّد الآحاد
ممّا يطيل الهمّ أنّ أمامنا ... طول الطّريق وقلّة الأزواد
عمري! لقد أغمدت منك مهنّدا ... في التّرب كان ممزّق الأغماد
قد كنت أهوى أن أشاطرك الرّدى، ... لكن أراد الله غير مرادي
ولقد كبا طرف الرّقاد بناظري، ... أسفا عليك، فلا لعا لرقاد (1)
ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيا، ... أنّى، ومثلك معوذ الميلاد (2)
من للبلاغة والفصاحة إن همى ... ذاك الغمام، وعبّ ذاك الوادي
من للملوك يجزّ في أعدائها ... بظبى من القول البليغ حداد
من للممالك لا يزال يلمّها ... بسداد أمر ضائع وسداد
من للجحافل يستزلّ رماحها، ... ويردّ رعلتها بغير جلاد (3)
من للموارق يستردّ قلوبها ... بزلازل الإبراق والإرعاد (4)
وصحايف فيها الأراقم كمّن، ... مرهوبة الإصدار والإيراد
تدمى طوائعها، إذا استعرضتها، ... من شدّة التّحذير والإيعاد
حمر على نظر العدوّ، كأنّما ... بدم يخطّ بهنّ لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش، وباطل ... أن ينهزمن هزائم الأجناد
فقر بها تمسي الملوك فقيرة، ... أبدا إلى مبدى لها ومعاد
وتكون صوتا للحرون، إذا ونى، ... وعنان عنق الجامح المتمادي
ترقي، وتلذع في القلوب، وإن يشا ... حطّ النّجوم بها من الأبعاد
إنّ الدّموع عليك غير بخيلة، ... والقلب بالسّلوان غير جواد
سودّت ما بين الفضاء وناظري، ... وغسلت من عينيّ كلّ سواد
ريّ الخدود من المدامع شاهد ... أنّ القلوب من الغليل صواد
ما كنت أخشى أن تضنّ بلفظة، ... لتقوم بعدك لي مقام الزّاد
ماذا الذي منع الفنيق هديره ... من بعد صولته على الأذواد (1)
ماذا الذي حبس الجواد عن المدى ... من بعد سبقته إلى الآماد
ماذا الذي فجع الهمام بوثبة، ... وعدا على دمه، وكان العادي
قل للنّوائب: عدّدي أيّامه ... يغنى عن التّعديد بالتّعداد
حمّال ألوية العلاء بنجدة، ... كالسّيف يغنى عن مناط نجاد
قلصت أظلّة كلّ فضل بعده، ... وأمرّ مشربها على الورّاد
لقضى لسانك، مذ ذوت ثمراته، ... أن لا دوام لنضرة الأعواد
وقضى جنانك، مذ قضت وقداته، ... أن لا بقاء لقدح كلّ زناد
بقيت أعيجاز يضلّ تبيعها، ... ومضت هواد للرّجال هواد
يا ليت أنّي ما اقتنيتك صاحبا، ... كم قنية جلبت أسى لفؤادي
إن لم تسفّ إلى التّناسل نفسه، ... كفي الأسى بتفاقد الأوداد (2)
برد القلوب لمن تحبّ بقاءه ... ممّا يجرّ حرارة الأكباد
ليس الفجائع بالذّخائر مثلها ... بأماجد الأعيان والأفراد
ويقول من لم يدر كنهك: إنّهم ... نقصوا به عددا من الأعداد
هيهات! أدرج بين برديك الرّدى ... رجل الرّجال وأوحد الآحاد
لا تطلبي، يا نفس، خلّا بعده ... فلمثله أعيا على المرتاد
فقدت ملائمة الشّكوك بفقده ... وبقيت بين تباين الأضداد
ما مطعم الدّنيا بحلو بعده ... أبدا، ولا ماء الحيا ببراد
الفضل ناسب بيننا، إن لم يكن ... شرفي مناسبه ولا ميلادي
إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي، ... فلأنت أعلقهم يدا بودادي
لو لم يكن عالي الأصول فقد وفى ... شرق الجدود بسؤدد الأجداد
لا درّ درّي إن مطلتك ذمّة ... في باطن متغيّب، أو باد
إنّ الوفاء، كما اقترحت، فلو يكن ... حيّا، إذا ما كنت بالمزداد
ليس التّنافث بيننا بمعاود ... أبدا، وليس زماننا بمعاد (1)
ضاقت عليّ الأرض بعدك كلّها، ... وتركت أضيقها عليّ بلادي
لك في الحشى قبر، وإن لم تأوه ... ومن الدّموع روائح وغوادي
سلّوا من الأبراد جسمك وانثنى ... جسمي يسلّ عليك في الأبراد
كم من طويل العمر بعد وفاته ... بالذّكر يصحب حاضرا، أو بادي
ما مات من جعل الزّمان لسانه ... يتلو مناقب عوّدا وبوادي
فاذهب كما ذهب الرّبيع وإثره ... باق بكلّ خمايل ونجاد
لا تبعدنّ وأين قربك بعدها ... إنّ المنايا غاية الأبعاد
صفح الثّرى عن حرّ وجهك أنّه ... مغرى بطيّ محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان، فطالما ... عبث البلى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنّه أروى حيا ... من رائح متعرّس، أو غاد
جدث على أن لا نبات بأرضه، ... وقفت عليه مطالب الرّوّاد















مصادر و المراجع :

١- ديوان الشريف الرضي

المؤلف: محمد بن الحسين بن موسى، أبو الحسن، الرضي العلوي الحسيني الموسوي.

المصدر: الشاملة الذهبية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید