المنشورات

يا طالب الأدب

يا طالبَ الأدبِ إن كنتَ نوعَ العلمِ تريدُ فاعرفِ الأصولَ والفصول. فإن كثيراً من الناسِ يطلبونًَ الفصول مع إضاعةِ الأصول فلا يكونُ دركهم دركاً. ومن أحرز الأصول اكتفى بها عنِ الفصولِ. وإن أصابَ الفصل بعد إحرازِ الأصلِ فهو أفضلُ.
فأصل الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤدي الفريضةَ. فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنهُ طرفهَ عينٍ، ومن يعلم أنهُ إن حرمهُ هلك. ثم إن قدرتَ على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضلُ وأكملُ وأصلُ الأمرِ في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكلِ والمشارب والباهِ إلا خُفاقاً، ثم إن قدرت على أن تعلم جميعَ منافعِ الجسد ومضارهِ والانتفاع بذلك كله فهو أفضلُ.
وأصلُ الأمر في البأسِ والشجاعةِ ألا تُحدثَ نفسك بالإدبارِ، وأصحابكَ مقبلونَ على عدوهم. ثم إن قدرت على أن تكونَ أولِ حاملٍ وآخر منصرفٍ، من غير تضييعٍ للحذرِ فهو أفضلُ.
وأصلُ الأمرِ في الجودِ ألا تضن بالحقوق على أهلها. ثم إن قدرتَ أن تزيدَ ذا الحق على حقه وتطول على من لا حق لهُ فافعل فهو أفضلُ.
وأصلُ الأمرِ في الكلامِ أن تسلم من السقطِ بالتحفظِ. ثم إن قدرت على بارعِ الصوابِ فهو أفضلُ.
وأصلُ الأمر في المعيشة ألا تني عن طلبٍ الحلالِ، وأن تحسن التقدير لما تفيد وما تنفقُ. ولا يغرنكَ من ذلك سعةٌ تكونُ فيها. فإن أعظمَ الناسِ في الدنيا خطراً أحوجهم إلى التقدير، والملوكُ أحوجُ إليهِ من السوقةِ لأن السوقة قد تعيشُ بغيرِ مالٍ، والملوكَ لا قوام لهم إلا بالمالِ. ثم إن قدرتَ على الرفقِ واللطفِ في الطلبِ والعلمِ بوجوهِ المطالبِ فهو أفضلُ.
وأنا واعظُكَ في أشياء من الأخلاقِ اللطيفةِ والأمورِ الغامضةِ التي لو حنكتك سنٌ كنتَ خليقاً أن تعلمها، وإن لم تخبر عنها. ولكنني قد أحببتُ أن أقدمَ إليكَ فيها قولاً لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادةِ مساوئها. فإن الإنسانَ قد تبتدرُ إليهِ في شبيبتهِ المساوئ، وقد يغلبُ عليه ما بدر إليه منها للعادةِ، وإن لترك العادةِ مؤونةً شديدةً ورياضةً صعبةً.













مصادر و المراجع :

١- الأدب الكبير والأدب الصغير

المؤلف: عبد الله بن المقفع (المتوفى: 142 هـ)

الناشر: دار صادر - بيروت

المصدر: الشاملة الذهبية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید