المنشورات

ماذا على المبتلى بصحبة السلطان وصحبة الوالي.

إن ابتليتَ بصحبة السلطانِ فعليكَ بطولِ المواظبة في غير معاتبةٍ، ولا يحدثنَ لك الاستئناسُ به غفلةً ولا تهاوُناً.
إذا رأيتَ السلطانَ يجعلُكَ أخاً فاجعله أباً، ثم إن زادك فزدهُ إذا نزلتَ من ذي منزلةٍ أو سلطانٍ فلا ترين أن سلطانهُ زادك له توقيراً وإجلالاً، من غيرِ أن يزيدكَ ودّاً ولا نصحاً.
وأنك ترى حقاً له التوقيرَ والإجلالَ. وكن في مداراتهِ والرفقِ به كالمؤتنفِ ما قبلهُ، ولا تقدرِ الأمر بينكَ وبينهُ على ما كنتَ تعرفُ من أخلاقهِ، فإن الأخلاقَ مستحيلةٌ مع الملكِ، وربما رأينا الرجل المدل على ذي السلطانِ بقدمهِ قد أضر بهِ قدمهُ.
إن استطعتَ ألا تصحبَ من صحبتَ من الولاةِ إلا على شعبةٍ من قرابةٍ أو مودةٍ، فافعل. فإن أخطأك ذلك فاعلم أنكَ إنما تعمل على السخرةِ.
إن استطعتَ أن تجعل صحبتكَ لمن قد عرفك بصالحِ مروءتكَ وصحة دينكَ وسلامةِ أموركَ قبلَ ولايتهِ فافعل.
فإن الوالي لا علم لهُ بالناسِ إلا ما قد علم قبلَ ولايته. أما إذا ولي فكل الناسِ يلقاهُ بالتزينِ والتصنعِ وكلهم يحتالُ لان يثني عليه عندهُ بمال ليس فيهِ. غير أن الأنذال والأرذال هم أشدٌ لذلكَ تصنعاً وأشد عليهِ مثابرةً وفيه تمحلاً.
فلا يمتنعُ الوالي، وإن كان بليغَ الرأي والنظرِ، من أن ينزل عندهُ كثيرٌ من الأشرار بمنزلةِ الأخيارِ، وكثيرٌ من الخانةِ بمنزلةِ الأمناءِ، وكثيرٌ من الغدرة بمنزلةِ الأوفياء، ويغطى عليهِ أمرُ كثيرٍ من أهل الفضل الذينَ يصونونَ أنفسهم عنِ التمحلِ والتصنعِ.
إذا عرفتَ نفسك من الوالي بمنزلةِ الثقةِ، فاعزل عنهُ كلامَ الملقِ، ولا تكثرنَ من الدعاء لهُ في كل كلمة، فإنّ ذلك شبيهٌ بالوحشةِ والغربةِ، إلا أن تكلمهُ على رؤوس الناسِ، فلا تأل عما عظمهُ ووقرهُ.
لا يعرفنكَ الولاة بالهوى في بلدٍ من البلدانِ ولا قبيلةٍ من القبائلِ، فيوشكَ أن تُحتاجَ فيهما إلى حكايةٍ أو شهادةٍ، فتُتهمَ في ذلك.
فإذا أردت أن يُقبلَ قولكَ فصحح رأيكَ ولا تشوبنهُ بشيءٍ من الهوى، فإن الرأي الصحيحَ يقبلهُ منكّ العدو، والهوى يردهُ عليكَ الولدُ والصديقُ.
وأحقُّ منِ احترستَ من أن يظُنّ بكَ خلطَ الرأي بالهوى الولاةُ، فإنها خديعةٌ وخيانةٌ وكفرٌ عندهم.
إن ابتليتَ بصحبةِ والٍ لا يُريدُ صلاحَ رعيتهِ فاعلم أنكَ قد خيرتَ بين خلتينِ ليس منهما خيارٌ: إما الميلُ مع الوالي على الرعيةِ، وهذا هلاكُ الدينِ.
وإما الميلُ مع الرعيةِ على الوالي، وهذا هلاكُ الدنيا، ولا حيلةَ لكَ إلا الموتُ أو الهربُ.
واعلم أنهُ لا ينبغي لكَ، وإن كانَ الوالي غيرَ مرضي السيرةِ إذا علقت حبالكَ بحبالهِ، إلا المحافظةُ عليهِ، إلا أن تجد إلى الفراقِ الجميلِ سبيلاً.
تبصر ما في الوالي من الأخلاقِ التي تحبّ له والتي تكرهُ، وما هو عليهِ من الرأي الذي ترضى لهُ والذي لا ترضى. ثم لا تكابرنهُ بالتحويلِ لهُ عما يُحبّ ويكرهُ إلى ما تحبَ وتكرهُ. فإنّ هذه رياضةٌ صعبةٌ تحملُ على التنائي والقلى.
فإنكَ قلما تقدرُ على ردّ رجلٍ عن طريقةٍ هو عليها بالمكابرة والمناقضةِ، وإن لم يكن ممن يتجمحُ بهِ عز السلطانِ. ولكنكَ تقدرُ على أن تعينهُ على أحسنِ رأيهِ، وتُسددهُ فيه وتزينهُ، وتقويهُ عليهِ، فإذا قويت منهُ المحاسن كانت هي التي تكفيكَ المساوئ. وإذا استحكمت منهُ ناحيةٌ من الصوابِ كان ذلكَ الصوابُ هو الذي يبصرهُ مواقعَ الخطأ بألطف من تبصيركَ وأعدل من حكمكَ في نفسهِ. فإن الصوابَ يؤيدُ بعضهُ بعضاً ويدعو بعضهُ إلى بعضٍ حتى تستحكم لصاحبهِ الأشياءُ، ويظهرَ عليها بتحكيمِ الرأي، فإذا كانت لهُ مكانةٌ من الأصالةِ اقتلعَ ذلك الخطأ كلهُ.
فاحفظ هذا الباب وأحكمهُ.














مصادر و المراجع :

١- الأدب الكبير والأدب الصغير

المؤلف: عبد الله بن المقفع (المتوفى: 142 هـ)

الناشر: دار صادر - بيروت

المصدر: الشاملة الذهبية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید