المنشورات

لكل أليف وجليس

إذا أصبت عندَ السلطانِ لطفَ منزلةٍ، لغناءٍ يجدهُ عندكَ أو هوى يكونُ لهُ فيكَ، فلا تطمحن كل الطماحِ ولا تُزينن لك نفسكَ المزايلة لهُ عن أليفهِ وموضعِ ثقتهِ وسرهِ قبلكَ: تُريدُ أن تقلعهُ وتدخلَ دونه، فإن هذه خلةٌ من خلالِ السفهِ قد يبتلى بها الحلماءُ عند الدنو من السلطانِ حتى يحدثُ الرجلُ منهم نفسهُ أن يكونَ دون الأهلِ والولدِ، لفضلٍ يظنهُ بنفسهِ أو نقصٍ يظنهُ بغيرهِ.
ولكل رجلٍ من الملوكِ أو ذي هيئةٍ من السوقةِ أليفٌ وأنيسٌ قد عرفَ روحهُ واطلع على قلبهِ. فليست عليهِ مؤونةٌ في تبذلٍ يتبذلهُ عندهُ، أو رأي يستبينُ منهُ، أو سرٍ يفشيهِ إليه. غير أن تلكَ الأنسة وذلك الإلفَ يستخرجُ من كل واحدٍ منهما ما لم يكن ليظهر منهُ عند الانقباضِ والتشدد. ولو التمس ملتمسٌ مثلَ ذلك عندَ من يستأنفُ مُلاطفتهُ ومؤانستهُ ومناسمتهُ، وإن كانَ ذا فضلٍ في الرأي وبسطةٍ في العلمِ، لم يجد عنده مثلَ ما هو منتفعٌ به ممن هو دونَ ذلك في الرأي ممن قد كفي مؤانستهُ ووقعَ على طباعهِ.
لأن الأنسة روحٌ للقلوبِ، وأن الوحشة روعٌ عليها. ولا يلتاطُ بالقلوبِ إلا ما لان عليها. ومن استقبلَ الأنسَ بالوحشةِ استقبل أمراً ذا مؤونةٍ.
فإذا كلفتك نفسكَ السمو إلى منزلةِ من وصفتُ لكَ، فاقدعها عن ذلك بمعرفةِ فضلِ الأليفِ والأنيسِ، وإذا حدثتكَ نفسكَ أو غيركَ، ممن لعلهُ أن يكونَ عندهُ فضلٌ في مروءةٍ، أنك أولى بالمنزلةِ عند السلطان من بعضِ دخلائهِ وثقاتهِ فاذكر الذي على السلطانِ من حق أليفهِ وثقتهِ وأنيسهِ في التكرمةِ والمكانةٍ والرأي، والذي يُعينُهُ على ذلكَ من الرأي أنهُ يجدُ عندهُ من الإلفِ والأنسِ ما ليس واجداً عندَ غيرهِ.
فليكن هذا مما تحفظُ فيهِ على نفسكَ وتعرف فيه عذر السلطان ورأيهُ.
والرأي لنفسكَ مثلُ ذلكَ، إن أرادكَ مريدٌ على الدخولِ دونَ أليفكَ وأنيسكَ وموضعِ ثقتكَ وسركَ وجدكَ وهزلكَ.
واعلم أنهُ يكادُ يكونُ لكل رجلٍ غالبةُ حديثٍ لا يزالُ يُحدثُ به: إما عن بلدٍ من البلدانِ أو ضربٍ من ضروبِ العلمِ أو صنفٍ من صنوفِ الناسِ أو وجهٍ من وجوهِ الرأي. وعندما يغرمُ به الرجلُ من ذلك يبدو منهُ السخفُ ويعرفُ منهُ الهوى، فاجتنب ذلك في كل موطنٍ، ثم عند السلطانِ خاصةً.














مصادر و المراجع :

١- الأدب الكبير والأدب الصغير

المؤلف: عبد الله بن المقفع (المتوفى: 142 هـ)

الناشر: دار صادر - بيروت

المصدر: الشاملة الذهبية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید