المنشورات

طَرَفَة بن العبد

هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. -وطرفة- بالتحريك في الأصل واحدة الطرفاء وهو الإثل (1) وبها لُقب طرفة واسمه عمرو (2).
وُلد في البحرين في بيت عريق الأصل والمحتد، فقد والده في سن مبكرة فنشأ يتيم الوالد ينفق بغير حساب فضيّق عليه أعمامه ورفضوا أن يعطوه حقه، وجاروا على أمّه، فظلموها حقها ويشير طرفة إلى ذلك في أبيات يقول فيها:
ما تنظرون بحق وردة (3) فيكم ... صَغُرَ البنونُ ورهط وردة غُيَّبُ
قد يبعث الأمر العظيم صغيرُهُ ... حتى تظل له الدماء تصبّبُ
والظلم فرَّق بين حبَّي وائلٍ ... بكرٌ تساقيها المنايا تغلب
ومما يُلاحظ من سيرة الشاعر أن ظلم أعمامه له قد ترك عنده ردّة فعل سلبية فبدل أن يذعن للأمر الواقع، تمرد على حدود القبيلة واجترأ على الأقارب واندفع نحو الملذات ينفق على أصحابه وخلّانه مما زاد من حقد عشيرته عليه معزولاً يعيش بمفرده وهو في ذلك يقول:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردتُ إفراد البعير المعبد (1)
ولكن كيف يُكتب لحياة كحياة طرفة أن تدوم ومن أين يأتي بالمال وليس عنده مورد يدر عليه. أضف إلى ذلك أن صحبة السوء التي كانت بجانبه تخلت عنه حين أصبح صفر اليدين:
أسلمني قومي ولم يغضبوا ... لسَوْءة حلت بهم، فادحهْ (2)
كلُّ خليلٍ كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحهْ (3)
كلهم اروغ من ثعلبٍ ... ما أشبه الليلة بالبارحهْ
عاد طرفة إلى أهله لا يلوي على شيء ولا يملك شروى نقير, فحمله أخوه معبد بن العبد على رعاية إبله فأهملها. فأنبه أخوه وقال له: ((تُرى إن أخذت تردها بشعرك هذا؟)). فقال طرفة: ((لا أخرج حتى تعلم أن شعري يردّها)). فلجأ طرفة إلى ابن عمه مالك ليعينه على استرجاعها من آخذيها، وكانوا قوماً من مُضر. فانتهره مالك بعنف فتألم الشاعر ونظم معلقته واصفاً حالته وجور أهله عليه وذكر فيها سيدين من أقربائه فمدحهما بكثرة المال والولد وقال:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالدٍ ... ولو شاء ربّي كنت عمرو بن مرشدِ
فأصبحت ذا مالٍ كثيرٍ وزارني ... بنون كرامٌ، سادةٌ لمسوّدِ
فدعاه أحدهما عمرو وكان له سبعة أولادٍ فأمرهم فدفع كل واحدٍ إلى طرفة عشرة من الإبل ثم أمر ثلاثة من أبناء بنيه فدفعوا له مثل ذلك. فردّ إبل أخيه وقد ردّها بشعره كما قال، وأقام ينفق من الباقي حتى نفد (1).
نشأ شاعرنا حاد الذكاء فخوراً تياهاً بشعره، لم يراع حرمة لقريب أو كبير فقد سمع خاله المتلمس (2) مرة يقول:
وقد أتناسى الهم عند احتقاره ... بناجٍ، عليه الصيعرية، مكدم (3)
فقال طرفة: ((إستنوق الجمل)) لأن الصيعرية سمة للنوق فضحك القوم وغضب خاله ثم قال: ويل لهذا الفتى من لسانه.
وقد صحت مقولة المتلمس فيه فقد جنى عليه لسانه وأودى به إلى القتل. وقد تضاربت الروايات حول قصة مقتله إلا أن أكثرهم يؤكد حقيقة دامغة وهي أن أخته كانت عند عبد عمرو بن بشر وكان من سادات قومه فجار على أخت الشاعر وظلمها فشكته إليه فهجاه طرفة بقصيدة يقول فيها:
ولا خير فيه غير أن له غنىً ... وإن له كشحاً إذا قامَ أهضما (1)
وكان من أفحش الهجاء عند العرب أن تصف رجلاً بوصف النساء فكيف بصهره صاحب الخصر النحيل الذي يشبه خصور النساء؟
فاتنا ذكر أن عمرو بن هند ملك الحيرة كان متذوقاً للشعر، يتوافد عليه الشعراء من كل جانب فوقد عليه طرفة مع خاله المتلمس فأنشده وأعجب بشعره وعاش في بلاطه نديماً لو ولولي عهده قابوس. وجاءت الصدف عكس ما يشتهي طرفة. فبينما كان يشرب يوماً بين يدي عمرو بن هند أطلت أخته فشبب بها طرفة حيث قال:
ألا يا ثاني الظبي الـ ... ـذي يبرق شنفاهُ (2)
ولولا الملك القاعد ... قد الثمني فاهُ
فنظر إليه عمرو بن هند نظرة غضب ويقال أنه وضعه في الأإقامة الجبرية وجعل عليه أخاه قابوس رقيباً.
اتفق بعدها أن عمرو بن هند خرج يوماً للصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفرٍ من أصحابه حتى أصاب طريدته فنزل وقال لأصحابه اجمعوا حطباً، وفيهم عبد عمرو بن بشر صهر طرفة. فقال لهم عمرو: أوقدوا فأوقدوا وشووا. فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو بن بشر يقدم إليه إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقاً فأبصر كشحه، وكان من أحسن أهل زمانه جسماً فقال له عمرو بن هنج: يا عبد عمرو لقد أبصر طرفة كشحك حيث يقول:
ولا خير فيه غير أن له غنىً ... وإن له كشحاً إذا قامَ أهضما
فغضب عبد عمرو وقال: لقد قال في الملك أقبح من هذا, فقال عمرو بن هند: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو على الذي سبق منه وأبى أن يسمعه ما قال. فقال اسمعنيه وطرفة أمين. فأسمعه القصيدة التي يقول فيها طرفة:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً، حول قبتنا تخورُ (1)
لعمرك إن قابوس بن هندٍ ... ليخلط ملكه نوك كثيرُ (2)
فسكت عمرو على ما وقر (3) في نفسه وكره أن يُعجل على طرفة لمكان قومه، فلما طالت المدة ظن طرفة أنه قد رضي عنه وكان المتلمس قد هجا عمرو بن هند أيضاً. فقدما إليه فجعل يريهما المحبة ليأنسا به، فلما طال مقامهما عنده قال لهما: لعلكما اشتقتما إلى أهلكما. قالا: نعم. فكتب لهما إلى عامله بالبحرين وهجر واسمه ربيعة بن الحارث العبدي. ولقبه المعكبر فلما هبطا النجف وقيل أرضاً قريبة من الحيرة، إذ هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقتل القمل. فقال له المتلمس: بالله ما رأيت شيخاً أحمق منك ولا أقل عقلاً. فقال له الشيخ: وما الذي أنكرت علي؟ فقال: تتبرز وتأكل وتقتل القمل! قال: إني أُخرج خبيثاً وأدخل طيباً وأقتل عدواً. ولكن أحمق مني من يجعل حتفه بيمينه وهو لا يدري، فتنبه المتلمس فإذا هو بغلام من أهل الحيرة فقال له: يا غلام أتقرأ؟ قال: نعم. ففتح كتابه ودفعه إليه فلما نظر إليه قال: ثكلت المتلمس أمه. وإذا في الكتاب: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً. فرمى المتلمس صحيفته في نهر يقال له كافر ثم تبع طرفة ليدركه وقال له: تعلم أن ما كتب فيك إلا بمثل ما كتب فيّ. فقال طرفة: إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي. فهرب المتلمس إلى الشام وانطلق طرفة إلى العامل المذكور،حتى قدم عليه بالبحرين وهو بهجر (1)، فدفع إليه كتاب عمرو بن هند فقرأه فقال: تعلم ما فيه؟ قال: نعم أُمرتَ أن تجيزني وتُحسن إلي. فقال له العامل: إن بيني وبينك خؤولة أنا لها راع. فاهرب من ليلتك هذه فإني قد أمرت بقتلك فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال له طرفة: اشتدت عليك جائزتي وأحببت أن أهرب وأجعل لعمرو بن هند عليّ سبيلاً، كأني أذنبت ذنباً والله لا أفعل ذلك أبداً. فلما أصبح أمر بحبسه وجاءت بكر بن وائل فقالت: قد طرفة فدعا به صاحب البحرين فقرأ عليهم كتاب الملك. قم أمر بطرفة فحبس وتكرم عن قتله، وكتب إلى عمرو بن هند أن ابعث إلى عاملك فإني غير قاتل الرجل، فبعث إليه عمرو بن هند رجلاً من بني تغلب يقال له عبد هند واستعمله على البحرين وكان رجلاً شجاعاً وأمره بقتل طرفة وقتل ربيعة بن الحارث العبدي. فقدمهما عبد هند، فقرأ عهده على أهل البحرين ولبث أياماً، واجتمعت بكر بن وائل فهمت به كوان طرفة يحضهم وانتدب له رجل من عبد القيس ثم من الحوائر يقال له أبو رشية. فقتله، فقبره معروف بهجر (2).
فقضى كرفة ولما يكمل العقد الثالث من عمره وقد رثته أخته الخرنق بأبيات تقول فيها:
عددنا له ستاً وعشرين حجةً ... فلما توفاها استوى سيداً ضخما
نشير أخيراً إلى منزلة طرفة الأدبية:
قال ابن قتيبة: هو أجود الشعراء قصيدة وله بعد المعلقة شعر حسن. وقال ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء الجاهليين والإسلاميين أنه في الطبقة الرابعة من رهط فحول الشعراء وموضعه مع الأوائل. فأما طرفة فأشعر الناس واحد وهي قوله:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... وقفت بها أبكي وأبكي إلى الغد
ويليها:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستقر
ومن بعد له قصائد حسان جياد.
وقال ابن رشيق: طرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء وهي المعلقة. وسئل لبيد من أشعر العرب؟ فقال: الملك الضلي -يعني امرأ القيس- فسأله ثم من؟ فقال: الغلام القتيل. يعني طرفة. ثم من؟ فقال الشيخ أبو عقيل يعني نفسه.
ويكفي طرفة بن العبد من الفضل ما ذكره أئمة المؤرخين والعلماء بحقه. وهو الفتى اليافع الذي أتحق خزانة الأدب بهذا التراث العظيم.
مهدي محمد ناصر الدين.
ماجستير في اللغة العربية وآدابها.
















مصادر و المراجع :

١- ديوان طرفة بن العبد

المؤلف: طَرَفَة بن العَبْد بن سفيان بن سعد البكري الوائلي أبو عمرو الشاعر الجاهلي (المتوفى: 564 م)

المحقق: مهدي محمد ناصر الدين

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الثالثة، 1423 هـ - 2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید