المنشورات

أول من أقر التسليم على الملوك معاوية

أخبرنا أبو احمد عن الجوهرى عن أبى زيد عن عبد الله ابن عبد الصمد بن خداش عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعى عن التسليم على الأمراء فقال: أول من فعله معاوية، وأقره عمر بن عبد العزيز، قال الأوزاعى: انى لاكرهه لانه مفسدة لقلوبهم.
وكره من الداخل على الملك ان يسلم لأن التسليم يقتضى الرد، وليس ينبغى ان يخاطب الملك بما يوجب عليه كلفة رد، ورجع جواب، ألا ترى أنه لا ينبغى لاحد أن يسأله عن حاله؟ وعما بات عليه فى ليلته الا أن يكون طبيبا فيسأل عن ذلك ليكون علاجه له بحسبه، ولان التسليم أيضا مبتذل فى سائر الناس، وعادات الملوك مباينة لعادات الرعايا، فسبيل الداخل عليهم، إن كان من الاشراف أن يجرد عليهم الدعاء، ويخلص التمجيد والثناء، قائما بحيث لا ينأى عنهم، ولا يقرب منهم، فان استدناه الملك، أكب على أطرافه فقبلها، ثم قام، فان أومأ «1» إليه بالقعود قعد، فان كلمه أجابه بانخفاض صوت، وقلة حركة وان سكت، نهض قبل أن يتمكن به المجلس بغير تسليم، ولا توديع ولا انتظار أمر.
وان كان من الطبقة الوسطى، فينبغى أن يقف نائيا عن الملك، وان استدناه دنا خطوات ثلاثة، فان استدناه ثانيا، دنا مثل ذلك، فان أومأ اليه بالقعود قعد مقعيا، «2» أو جاثيا، وان كان فى دخوله محاذيا له عدل يمينا أو شمالا، ان أمكن ذلك، ثم ينحرف الى مجلسه، فاذا وقعت عينه عليه هرول اليه حتى يقف بين يديه، ويدعو قائما، وان سكت عنه انصرف ومشى القهقرى «3» من غير سلام ولا كلام، وان أمكن ان يستتر بشىء عن نظره فعل، «4» فاذا دخل اليه من يساويه فى السلطات فينبغى للملك ان يقوم اليه فيعانقه، ويجلس مجلسه، ويجلس دونه، فاذا انصرف مشى معه خطى يسيرة، ويدعو بدابته، ويأمر حشمه بالسعى بين يديه، ليفعل به مثل ذلك اذا كان فى مثل حاله.
ومن حضر طعام الملك فينبغى ان يقلل الاكل غاية الاقلال، حتى يأكل كما تأكل الطير، فانما يراد بمواكلة الملوك التشريف لا الشبع.
وروى ان سابور ذا الاكتاف أراد أن يولى رجلا قضاء القضاة، فأحضره طعامه، فأكل أكلا واسعا، فلما فرغ قال له: انصرف فان من شره بين يدى الملوك كان الى مال الرعية أشره،.. ودعا المنصور فتى من بنى هاشم الى طعامه فقال: قد أكلت، فعدل به الربيع فضربه ثلاثين مقرعة، فعاتبه المنصور فقال: ان هذا كان يقف فى النظارة فاستدناه أمير المؤمنين، حتى دعاه الى طعامه، فظن أن ذلك يراد به الشبع، وأغفل ما فيه من التشريف، فأدبته على سوء تمييزه، فشكر له المنصور وأجازه.
ومن يدنه الملك لمنادمته ينبغ أن ينادمه على حسب عادة الملك فى ذم نفسه، وارسالها عند الشرب، «1» ولا يسأله حاجة اذا سكر، فان ذلك يجرى مجرى الخداع، واذا أراد أن يقوم لحاجة فينبغى أن يلاحظ الملك، فان نظر اليه قام مائلا، فان نظر اليه مضى. وان عاد وقف أبدا، حتى اذا نظر إليه قعد مقعيا أو جاثيا، فإذا نظر إليه تمكن، وليس له ان يختار كمية الشرب وكيفيته، وعلى الملك أن يأمر بالكف عنه اذا بلغ الكفاية، ولا يكلفه فوق وسعه، فإن من يجاوز حد العدل على الخاصة، لم تطمع العامة فى انصافه، واذا كان من اسم الداخل على الملك بعض صفات الملك، فسأله الملك عن اسمه، فينبغى ان يكنى عنه، ويصف الملك بتلك الصفة، ... دخل سعيد بن مرة الكندى على معاوية فقال له: أنت سعيد؟ قال: أمير المؤمنين السعيد، وأنا ابن مرة، وقيل للعباس بن عبد المطلب: أنت أكبر أم رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-؟ فقال:
رسول الله أكبر منى، وأنا أسن منه.
واذا حدثه الملك بحديث فينبغى أن يصرف فكره وذهنه نحوه، ويظهر السرور بالفائدة منه، روى أن بعضهم ساير أنوشروان، فقال له أنو شروان:
حدثنى حديث كذا، وكان يعرفه، فأنكر معرفته، وأخذ أنو شروان يحدثه الحديث، وأصغى اليه بجوارحه كلها، وكان سيرهما على شاطىء نهر فأغفل الرجل النظر الى مواطىء دابته، فمالت به الى النهر، فابتدره الحاشية وأخرجوه فقال له: كيف غفلت عن مواطىء دابتك؟ فقال: ان الله اذا أنعم على رجل بنعمة قابلها بمنحة، وعلى قدر النعم تكون المحن، وان الله أنعم على نعمتين:
اقبال الملك على من بين هذا السواد الاعظم، والفائدة بحديثه، فلما اجتمعتا جاءت على أثرهما هذه المحنة، فأمر فحشى فمه جوهرا ودرا ثمينا.
ومثل ذلك أن يزيد بن سحرة ساير معاوية يوما، فأقبل عليه يحدثه، فصلت وجه يزيد حجر عاثر، فصار الدم يسيل على ثيابه ولا يمسحه ولا يشتغل به، فقال له معاوية: أما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك؟ قال: وجهك يسيل، قال: عنق ما أملك ان لم يكن حديث أمير المؤمنين الهانى، وغمر فكرى، فما شعرت بما أصابنى، فقال معاوية: لقد ظلمك من جعلك فى ألف من العطاء، وأمر له بخمسمائة ألف درهم، وزاد فى عطائه ألفا، ولا شك أن يزيد تصنع لمعاوية فى هذا الكلام، وان معاوية تخادع له لحسن أدبه.
أخبرنا أبو احمد باسناده عن الواقدى عن ابن أبى قال: قلت للزهرى من أول من سلم عليه؟ فقيل: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حى على الصلاة، حى على الفلاح، الصلاة يرحمك الله، فقال: معاوية بالشام، ومروان بن الحكم بالمدينة، كانوا يقولون: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حى على الصلاة، حى على الفلاح، الصلاة يرحمك الله، انتهى.

















مصادر و المراجع :      

١- الأوائل

المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)

الناشر: دار البشير، طنطا

الطبعة: الأولى، 1408 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید