المنشورات

أول من ظهر لندمائه من ملوك بنى العباس المهدى

أخبرنا أبو احمد عن الصولى عن يحيى بن على عن أبيه عن اسحاق الموصلى قال: كان المهدى فى أول أمره يحتجب على ندمائة، متشبها بالمنصور نحوا من سنة، ثم ظهر لهم لما قال سلم الخاسر:
من راقب النّاس مات غمّا ... وفاز باللّذّة الجسور «1»
فاشار اليه أبو عون أن يحتجب عنهم، فقال: اليك عنى يا جاهل! انما اللذة مع مشاهدتها، وفى أدراك الجوارح لها لذة، فأما من وراء الحجاب فما له معنى، وكان بشار قال:
من راقب النّاس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطّيّبات الفاتك اللهج «2»
فلما سمع بيت سلم قال: ذهب ابن الفاعلة ببيتى، ومن هاهنا «3» أخذ أبو نواس قوله:
الا فاسقنى خمرا وقل لى هى الخمر ... ولا تسقنى سرّا اذا امكن الجهر
وبح باسم من أهوى ودعنى من الكنى ... فلا خير فى اللّذّات من دونها ستر
وهذا أشأم بيت قيل، وكان سبب زوال ملك محمد الامين وقتله هذا البيت، لما اتصل بالمأمون أمر مناديا فنادى به فى بلاد خراسان «1» وقال: قائل هذا البيت ينادم محمدا، ويقول مثل هذا بحضرته، فلا يكون منه نكير، فاشتد اهل خراسان على محمد، واستحلوا قتله، واتصل ذلك بمحمد فحبس أبا نواس، وانكر عليه.
وكان أبو العباس يظهر لندمائه فى اول خلافته، ثم قال له أسد بن عبد الله الخزاعى- وكان صاحب حرسه- ان الخلافة ترق على كل شىء، والبذلة «2» فيها أكبر الخطأ، فاحتجب عنهم بستارة، وكان لا ينصرف عنه نديم، ولا مله فى كل يوم يجلس لهم فيه الا بعطاء كثير أو قليل، وهذه فضيلة لم تكن لعربى ولا عجم قبله ولا بعده الا أنو شروان، فقد حكى عنه مثل ذلك، وكان يقول: أعجب من انسان يفرحه انسان ويمكنه مكافأته فيؤخرها ويجعلها عدة وتسويفا، فيتكدر صفوها، وينطمس نورها.
والمهدى اول من علق الخيس، «3» وذلك أنه جلس الى جنب حائط عليه منديل رطب، فوجد برده، فأمر باتخاذ الخيس، وكان ملوك بنى أمية يعدون تطيين البيوت التى يبردون فيها أشهر الصيف مرات فى الأسبوع.
قال الجاحظ: هذه ملوك نزلوا على دجلة، من دون الصيادة الى قرية بغداد فى القصور والبساتين، وكانوا أصحاب نظر واستخراج، من لدن أزدشير بن بابك الى زمن فيروز ابن يزدجرد، وقبل ذلك أيضا ما كان نزلها ملوك الازدوان بعد ملك الاسكندر، فهل رأيتم أحدا منهم اتخذ حراقة او زلالة «1» أو قاربا؟ وهل عرفوا الخيس مع حر البلاد وشدة وقوع السموم؟ وهل عرفوا الجمازات «2» فى أسفارهم؟ وهل عرف فلاحوهم من الاثمار المطعمة، وغراس النخل على الفرد دون الشطر؟ وأين كانوا عن تزيين سقوفهم بالرديات «3» ؟ وأين كانوا عن استنباط قهوة العصفر؟ واين كانوا عن مراكب الامم فى ممارسة العدو فى البحر؟ ان طلبت النوازح «4» أدركتها، وان كرهتها فاتتها، بعد ان كانوا أسارى فى يد الهند، تتحكم عليهم، وتتلعب بهم، وأين كانوا عن الرمى بالنيران؟ وكانوا يتخذون الأدهان، وينفقون عليها، فترى الرجال رسم العمائم، وسخ القلانس، وكان الرجل اذا مر بالعطار، وأراد كرامته دهن رأسه ولحيته، وكان الرجل من عوام الناس اذا أطعم ضيفا او زائرا كسر الخبز بين يديه، كى لا يحتشم من أكل الكثير، وكان أهل البيت إذا طبخوا اللحم غرفوا للجار والجارة منه غرفة، وكان الناس لا يغسلون أيديهم للطعام قبله كما كانوا يغسلونها بعده، ثم اتخذوا الموائد السفر وبسطوا اللبود على وجوه البسط الكريمة، وكانوا يستخدمون فى منازلهم الرجال الشباب، والوصائف الرومية، من الكواعب والنواهد. «5» فاستحدثوا الخصيان والغلمان بدلا من الجوارى، وكان خوان أحدهم طسموان، «1» فاستبدلوا الخلنج بالصفر «2» ، وجعلوا الصفر للطساس «3» والاباريق، وكانت المرأة اذا خرجت شدت رأسها بالرمائد «4» - والرمائد على زى نساء العرب اليوم- وكانوا يلبسون القمص على الجلباب، لا يعرفون المبطنات، فترى القميص متقلصا عن جبه الراكب، واتخذوا المرفلات، «5» وشربوا الثلج، وأحصو ما وجدوا فى ديوان الفرس من أسماء غريبة، فلم يجدوه على عشر العشر مما استخرج بعد، وكانوا يأتون الصين فى سنة ويرجعون فى سنة، ويقيمون سنة، وقد رجع إلى البصرة رجال لم يتم لهم أن يغيبوا ثمانية عشر شهرا، وكانوا يلبسون الديباج، فجعله هؤلاء أفيفا لدوابهم، وكان الكتاب اذا كتبوا وفرغوا من الرسائل قطعوا الكاغد «6» بالمقاريض، ثم حددوا أظفار الابهام فقطعوه به، ثم قطعوه بمواخر الاقلام، وهذه خطوط الاول فى المصاحف والسجلات والعهود، وهذه خطوط الناس اليوم، وكانوا يشربون فى جامات «7» الذهب والفضة، وقد عرف الناس فضيلة الزجاج فى خفة المحمل، وفى ادراء ما وراءها من الاشخاص.
قال أبو هلال:- ايده الله- يريد أن عمل الحراقات والزلالات وصب الزردج، واستخراج النساسخ، وتعليق الخيوش، وعمل الرديات، انما كان فى الاسلام، وكذلك إجراء السفن المقيرة فى البحر.















مصادر و المراجع :      

١- الأوائل

المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)

الناشر: دار البشير، طنطا

الطبعة: الأولى، 1408 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید