المنشورات
الجبائية والبهشمية
في العدم. فلم يبق إلا صفة الوجود أو الصفات التي تلزم الوجود والحدوث. وأطلق على المعدوم لفظ الثبوت، وقال في نفي الصفات عن الباري مثل ما قاله أصحابه، وكذا القول في القدر والسمع، والعقل، وانفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل:
منها قوله: إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته، ولا هو مريد لذاته، ولا إرادته حادثة في محل أولا في محل. بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه عالم، قادر، غير مكره في فعله، ولا كاره. ثم إذا قيل هو مريد لأفعاله، فالمراد به أنه خالق لها على وفق علمه، وإذا قيل هو مريد لأفعال عباده، فالمراد به أنه آمر بها، راض عنها. وقوله في كونه سميعا بصيرا راجع إلى ذلك أيضا، فهو سميع بمعنى أنه عالم بالمسموعات، وبصير بمعنى أنه عالم بالمبصرات. وقوله في الرؤية كقول أصحابه نفيا وإحالة. غير أن أصحابه قالوا: يرى الباري تعالى ذاته، ويرى المرئيات، وكونه مدركا لذلك زائد على كونه عالما. وقد أنكر الكعبي ذلك؛ قال: معنى قولنا: يرى ذاته ويرى المرئيات: أنه عالم بها فقط.
عبد السلام1. وهما من معتزلة البصرة؛ انفردا عن أصحابهما بمسائل. وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل. أما المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما:
فمنها: أنهما أثبتا إرادات حادثة لا في محل, يكون الباري تعالى بها موصوفا مريدا. وتعظيما لا في محل إذا أراد أن يعظم ذاته, وفناء لا في محل إذا أراد أن يفنى العالم. وأخص أوصاف هذه الصفات يرجع إليه من حيث إنه تعالى أيضا لا في محل، وإثبات موجودات هي أعراض، أو في حكم الأعراض لا محل لها كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا مكان لها، وذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلا هو جوهر لا في محل ولا في مكان، وكذلك النفس الكلية، والعقول المفارقة.
ومنها: أنهما حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل، وحقيقة الكلام عندهما أصوات مقطعة، وحروف منظومة، والمتكلم من فعل الكلام، لا من قام به الكلام. إلا أن الجبائي خالف أصحابه خصوصا بقوله: يحدث الله تعالى عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة، وذلك حين ألزم أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام الله، والمسموع منه ليس من كلام الله، فالتزم هذا المحال من إثبات أمر غير معقول ولا مسموع؛ وهو إثبات كلامين في محل واحد.
واتفقا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، وعلى القول بإثبات الفعل للعبد خلقا وإبداعا، وإضافة الخير والشر، والطاعة والمعصية إليه استقلالا واستبدادا، وأن الاستطاعة قبل الفعل، وهي قدرة زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح، وأثبتا البنية شرطا في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة، واتفقا على أن المعرفة وشكر المنعم، ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية، وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل، ولا يهتدي إليها فكر. وبمقتضى العقل والحكم يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع.
والإيمان عندهما اسم مدح، وهو عبارة عن خصال الخير التي إذا أجتمعت في شخص سمي بها مؤمنا، ومن ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقا، لا مؤمنا ولا كافرا، وإن لم يتب ومات عليها فهو مخلد في النار.
واتفقا على أن الله تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتوبة من الصلاح والأصلح واللطف، لأنه قادر، عالم جواد، حكيم لا يضره الإعطاء، ولا ينقص من خزائنه المنح، ولا يزيد في ملكه الادخار، وليس الأصلح هو الألذ، بل هو الأعود في العاقبة، والأصوب في العاجلة وإن كان ذلك مؤلما مكروها، وذلك كالحجامة والفصد، وشرب الأدوية. ولا يقال إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بعبده، والتكاليف كلها ألطاف. وبعثة الأنبياء، وشرع الشرائع، وتمهيد الأحكام والتنبيه على الطريق الأصوب، كلها ألطاف.
ومما تخالفا فيه: أما في صفات الباري تعالى فقال الجبائي: الباري تعالى عالم لذاته، قادر حي لذاته. ومعنى قوله: لذاته أي لا يقتضي كونه عالما صفة هي علم، أو حال توجب كونه عالما.
وعند أبي هاشم: هو عالم لذاته، بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا، وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها. فأثبت أحوالا هي صفات لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة. أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات. قال: والعقل يدرك فرقا ضروريا بين معرفة الشيء مطلقا، وبين معرفته على صفة، فليس من عرف الذات عرف كونه عالما، ولا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلا للعرض. ولا شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية، وافتراقها في قضية. وبالضرورة يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به. وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل، وهي لا ترجع إلى الذات، ولا إلى أعراض وراء الذات، فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض فتعين بالضرورة أنها أحوال. فكون العالم عالما حال هي صفة وراء كونه ذاتا، أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات. وكذلك كونه قادرا، حيا. ثم أثبت للباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال، وخالفه والده وسائر منكري الأحوال في ذلك، وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء الأجناس. وقالوا: أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالا وتفترق في خصائص؟ كذلك نقول في الصفات، وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال، ويفضي إلى التسلسل. بل هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير، لا أن مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء ويشترك فيها الكثير، فإن ذلك مستحيل. أو يرجع ذلك إلى وجوه واعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك والافتراق، وتلك الوجوه. كالنسب والإضافات، والقرب والبعد وغير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق، وهذا هو اختيار أبي الحسين1 البصري، وأبي الحسن الأشعري، ورتبوا على هذه المسألة: مسألة أن المعدوم شيء. فمن يثبت كونه شيئا كما نقلنا عن جماعة من المعتزلة، فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجودا. فعلى ذلك لا يثبت للقدرة في إيجادها أثرا ما سوى الوجود. والوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى اللفظ المجرد. وعلى مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود ولا بالعدم. وهذا كما ترى من التناقض والاستحالة. ومن نفاة الأحوال من يثبته شيئا ولا يسميه بصفات الأجناس. وعند الجبائي أخص وصف الباري تعالى هو القدم، والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم. وليت شعري! كيف يمكنه إثبات الاشتراك والافتراق، والعموم والخصوص حقيقة وهو من نفاة الأحوال؟ فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد، غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته رجع إلى نفي الأولية، والنفي يستحيل أن يكون أخص وصف الباري.
واختلفا في كون سمعيا بصيرا. فقال الجبائي: معنى كونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به.
وخالفه ابنه وسائر أصحابه. أما ابنه فصار إلى كونه سميعا حالة، وكونه بصيرا حالة. وكونه بصيرا حالة سوى كونه عالما؛ لاختلاف القضيتين والمفهومين، والمتعلقين، والأثرين.
وقال غيره من أصحابه: معناه كونه مدركا للمبصرات، مدركا للمسموعات. واختلفا أيضا في بعض مسائل اللطف. فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته، ولو آمن بلا لطف لكان ثوابه أكثر لكثرة مشقته: إنه لا يحسن منه أن يكلفه إلا مع اللطف. ويسوي بينه وبين من المعلوم من حاله أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف. ويقول: إذ لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن يكون مستفسدا حاله، غير مزيح لعلته.
ويخالفه أبو هاشم في بعض المواضع في هذه المسألة. قال: يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على أشق الوجهين بلا لطف. واختلفا في فعل الألم للعوض، فقال الجبائي: يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض, وعليه بنى آلام الأطفال. وقال ابنه: إنما يحسن ذلك بشرط العوض والاعتبار جميعا. وتفصيل مذهب الجبائي في الأعراض على وجهين: أحدهما أنه يقول يجوز التفضل بمثل الأعواض غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم متقدم. والوجه الثاني أنه إنما يحسن ذلك لأن العوض مستحق، والتفضل غير مستحق. والثواب عندهم ينفصل عن التفضل بأمرين: أحدهما: تعظيم وإجلال للمثاب يقترن بالنعيم. والثاني: قدر زائد على التفضل بزيادة مقدار ولا بزيادة صفة.
وقال ابنه: يحسن الابتداء بمثل العوض تفضلا، والعوض منقطع غير دائم. وقال الجبائي: يجوز أن يقع الانتصاف من الله تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها عليه إذ لم يكن للظالم على الله عوض لشيء ضره به.
وزعم أبو هاشم أن التفضل لا يقع به انتصاف، لأن التفضل ليس يجب عليه فعله. وقال الجبائي وابنه: لا يجب على الله شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلا وشرعا. فأما إذا كلفهم فعل الواجب في عقولهم، واجتناب القبائح، وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور من الحسن، وركب فيهم الأخلاق الذميمة؛ فإنه يجب عليه عند هذا التكليف إكمال العقل، ونصب الأدلة، والقدرة، والاستطاعة، وتهيئة الآلة، بحيث يكون مزيحا لعللهم فيما أمرهم، ويجب عليه أن يفعل بهم أدعى الأمور إلى فعل ما كلفهم به، وأزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه. ولهم في مسائل هذا الباب خبط طويل.
وأما كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة فيخالف كلام البصريين، فإن من شيوخهم من يميل إلى الروافض، ومنهم من يميل إلى الخوارج.
والجبائي وأبو هاشم قد وافقها أهل السنة في الإمامة، وأنها بالاختيار، وأن الصحابة مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة، غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء من الصحابة وغيرهم، ويبالغون في عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب كبائرها وصغائرها، حتى منع الجبائي القصد إلى الذنب إلا على تأويل. والمتأخرون من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار1 وغيره انتهجوا طريقة أبي هاشم. وخالفه في ذلك أبو الحسين البصري، وتصفح أدلة الشيوخ واعترض على ذلك بالتزييف والإبطال، وانفرد عنهم بمسائل: منها نفي الحال، ومنها نفي المعدوم شيئا، ومنها نفي الألوان أعراضا، ومنها قوله إن الموجودات تتمايز بأعيانها، وذلك من توابع نفي الحال، ومنها رده الصفات كلها إلى كون الباري تعالى عالما، قادرا، مدركا. وله ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في أن الأشياء لا تعلم قبل كونها. والرجل فلسفي المذهب، إلا أنه روج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب.
مصادر و المراجع :
١- الملل والنحل
المؤلف: أبو
الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)
الناشر: مؤسسة
الحلبي
15 يوليو 2024
تعليقات (0)