المنشورات
الغالية:
هؤلاء هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية. فربما شبهوا واحدا من الأئمة بالإله. وربما شبهوا الإله بالخلق. وهم على طرفي الغلو والتقصير. وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية، ومذاهب التناسخية، ومذاهب اليهود والنصارى، إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق، والنصارى شبهت الخلق بالخالق. فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة، حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة. وكان التشبيه بالأصل والوضع في الشيعة، وإنما عادت إلى بعض أهل السنة بعد ذلك وتمكن الاعتزال فيهم لما رأو أن ذلك أقرب إلى المعقول، وأبعد من التشبيه والحلول.
وبدع الغلاة محضورة في أربع: التشبيه، والبداء، والرجعة، والتناسخ. ولهم ألقاب، وبكل بلد لقب، فيقال لهم بأصبهان: الخرمية، والكوذية، وبالري: المزدكية والسنباذية، وبأذربيجان الدقولية. وبموضع المحمرة، وبما وراء النهر: المبيضة.
وهم أحد عشر صنفا.
"أ" السبائية:
أصحاب عبد الله بن سبإ الذي قال لعلي كرم الله وجهه: أنت، أنت، يعني أنت الإله، فنفاه إلى المدائن. زعموا أنه كان يهوديا فأسلم، وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي الله عنه. وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه ومنه انشعبت أصناف الغلاة.
زعم أن عليا حي لم يمت، ففيه الجزء الإلهي، ولا يجوز أن يستولى عليه وهو الذي يجيء في السحاب، والرعد صوته، والبرق تبسمه. وأنه سينزل إلى الأرض بعد ذلك فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.
وإنما أظهر ابن سبإ هذه المقالة بعد انتقال علي رضي الله عنه واجتمعت عليه جماعة، وهم أول فرقة قالت بالتوقف، والغيبة، والرجعة، وقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه. قال: وهذا المعنى مما كان يعرفه الصحابة وإن كانوا على خلاف مراده. هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول فيه حين فقأ عين واحد بالحد في الحرم ورفعت القصة إليه: ماذا أقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله؟ فأطلق عمر اسم الإلهية عليه لما عرف منه ذلك.
"ب" الكاملية:
أصحاب أبي كامل. أكفر جميع الصحابة بتركها بيعة علي رضي الله عنه. وطعن في علي أيضا بتركه طلب حقه، ولم يعذره في القعود. قال: وكان عليه أن يخرج ويظهر الحق. على أنه غلا في حقه وكان يقول: الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص، وذلك النور في شخص يكون نبوة، وفي شخص يكون إمامة. وربما تتناسخ الإمامة فتصير نبوة. وقال بتناسخ الأرواح وقت الموت.
والغلاة على أصنافها كلهم متفقون على التناسخ والحلول. ولقد كان التناسخ مقالة لفرقة في كل ملة تلقوها من المجوس المزدكية، والهند البرهمية، ومن الفلاسفة، والصابئة ومذهبهم أن الله تعالى قائم بكل مكان، ناطق بكل لسان، ظاهر في كل شخص من أشخاص البشر، وذلك بمعنى الحلول.
وقد يكون الحلول بجزء، وقد يكون بكل. أما الحلول بجزء، فهو كإشراق الشمس في كوة، أو كإشراقها على البلور.
أما الحلول بكل فهو كظهور ملك بشخص، أو شيطان بحيوان.
ومراتب التناسخ أربع: النسخ، والمسخ, والفسخ، والرسخ. وسيأتي شرح ذلك عند ذكر فرقهم من المجوس على التفصيل. وأعلى المراتب مرتبة الملكية أو النبوة. وأسفل المراتب الشيطانية أو الجنية.
وهذا أبو كامل كان يقول بالتناسخ ظاهرا من غير تفصيل مذهبهم.
"جـ" العلبائية:
أصحاب العلباء بن ذراع الدوسي. وقال قوم: هو الأسدي. وكان يفضل عليا على النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم أنه بعث محمدا؛ يعني عليا، وسماه إلها. وكان يقول بذم محمد صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه. ويسمون هذه الفرقة الذمية.
ومنهم من قال بإلهيتهما جميعا، ويقدمون عليا في أحكام الإلهية، ويسمونهم العينية.
ومنهم من قال بإلهيتهما جميعا، ويفضلون محمدا في الإلهية، ويسمونهم الميمية.
ومنهم من قال بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. وقالوا خمستهم شيء واحد. والروح حالة فيهم بالسوية: لا فضل لواحد منهم على الآخر. وكرهوا أن يقولوا فاطمة بالتأنيث، بل قالوا فاطم، بلا هاء، وفي ذلك يقول بعض شعرائهم:
توليت بعد الله في الدين خمسة ... نبيا وسبطيه وشيخا وفاطما
"د" المغيرية:
أصحاب المغيرة بن سعيد1 العجلي. ادعى أن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسين في: محمد النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، الخارج بالمدينة. وزعم أنه حي لم يمت.
وكان المغيرة مولى لخالد بن عبد الله القسري، وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد
وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه، واستحل المحارم، وغلا في حق علي رضي الله عنه غلوا لا يعتقده عاقل. وزاد على ذلك قوله بالتشبيه فقال: إن الله تعالى صورة وجسم ذو أعضاء على مثال حروف الهجاء. وصورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من نور. وله قلب تنبع منه الحكمة. وزعم أن الله تعالى لما أراد خلق العالم تكلم بالاسم الأعظم. فطار فوقع على رأسه تاج. قال: وذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} 1.
ثم اطلع على أعمال العباد وقد كتبها عفى كفه، فغضب من المعاصي فعرق. فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما مالح، والآخر عذب. والمالح مظلم، والعذب نير، ثم اطلع في البحر النير فأبصر ظله، فانتزع عين ظله فخلق منها الشمس والقمر، وأفنى باقي ظله وقال: لا ينبغي أن يكون معي إله غيري. قال: ثم خلق الخلق كله من البحرين، فخلق المؤمنون من البحر النير، وخلق الكفار من البحر المظلم. وخلق ظلال الناس أول ما خلق، وأول ما خلق هو ظل محمد عليه الصلاة والسلام وظل علي قبل خلق ظلال الكل، ثم عرض على السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة، وهي أن يمنعن علي ابن أبي طالب من الإمامة، فأبين ذلك، ثم عرض ذلك على الناس، فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك، وضمن له أن يعينه على الغدر به على شرط أن يجعل الخلافة له من بعده، فقبل منه وأقدما على المنع متظاهرين، فذلك قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 2 وزعم انه نزل في حق عمر قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} 3.
ولما أن قتل المغيرة اختلف أصحابه، فمنهم من قال بانتظاره ورجعته، ومنهم من قال بانتظار إمامة محمد، كما كان يقول هو بانتظاره. وقد قال المغيرة بإمامة أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما، ثم غلا فيه وقال بإلهيته فتبرأ منه الباقر ولعنه، وقد قال المغيرة لأصحابه: انتظروه، فإنه يرجع، وجبريل وميكائيل يبايعانه بين الركن والمقام، وزعم أنه يحيي الموتى.
"هـ" المنصورية:
أصحاب أبي منصور1 العجلي، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر في الأول، فلما تبرأ منه الباقر وطرده زعم أنه هو الإمام، ودعا الناس إلى نفسه، ولما توفي الباقر قال: انتقلت الإمامة إلي وتظاهر بذلك وخرجت جماعة منهم بالكوفة في بني كندة حتى وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك على قصته وخبث دعوته، فأخذه وصلبه.
زعم أبو منصور العجلي أن عليا رضي الله عنه هو الكسف1 الساقط من السماء. وربما قال: الكسف الساقط من السماء هو الله تعالى: وزعم حين ادعى الإمامة لنفسه أنه عرج به إلى السماء، ورأى معبوده فمسح بيده رأسه، وقال له: يا بني، انزل فبلغ عني. ثم أهبطه إلى الأرض. فهو الكسف الساقط من السماء.
وزعم أيضا أن الرسل لا تنقطع أبدا. والرسالة لا تنقطع. وزعم أن الجنة رجل أمرنا بموالاته، وهو إمام الوقت. وأن النار رجل أمرنا بمعاداته، وهو خصم الإمام. وتأول المحرمات كلها على أسماء رجال أمرنا الله تعالى بمعاداتهم. وتأول الفرائض على أسماء رجال أمرنا بموالاتهم. واستحل أصحابه قتل مخالفيهم وأخذ أموالهم، واستحلال نسائهم. وهم صنف من الخرمية. وإنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال: هو أن من ظفر بذلك الرجل وعرفه فقد سقط عند التكليف، وارتفع الخطاب إذ قد وصل إلى الجنة وبلغ الكمال.
ومما أبدعه العجلي أنه قال: إن أول ما خلق الله تعالى هو عيسى بن مريم عليه السلام ثم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
"و" الخطابية:
أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه. فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه، وأمر أصحابه بالبراءة منه. وشدد القول في ذلك، وبالغ في التبري منه واللعن عليه. فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه.
زعم أبو الخطاب أن الأئمة أنبياء ثم آلهة. وقال بإلهية جعفر بن محمد، وإلهية آبائه رضي الله عنهم. وهم أبناء الله وأحباؤه. والإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمامة. ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار. وزعم أن جعفرا هو الإله في زمانه، وليس هو المحسوس الذي يرونه. ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها.
ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة. وافترقت الخطابية بعده فرقا.
فزعمت فرقة أن الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له معمر، ودانوا به كما دانوا بأبي الخطاب. وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأن الجنة هي التي تصيب الناس من خير ونعمة وعافية. وأن النار هي التي تصيب الناس من شر ومضقة وبلية. واستحلوا الخمر والزنا، وسائر المحرمات، ودانوا بترك الصلاة والفرائض، وتسمى هذه الفرقة المعمرية.
وزعمت طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب: بزيغ، وكان يزعم أن جعفرا هو الإله؛ أي ظهر الإله بصورته للخلق، وزعم أن كل مؤمن يوحي إليه من الله، وتأول قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 أي بوحي إليه من الله، وكذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} 2 وزعم أن من أصحابه من هو أفضل من جبريل وميكائيل، وزعم أن الإنسان إذا بلغ الكمال لا يقال له إنه قد مات، ولكن الواحد منهم إذا بلغ النهاية قيل رجع إلى الملكوت، وادعوا كلهم معاينة أمواتهم، وزعموا أنهم يرونهم بكرة وعشية، وتسمى هذه الطائفة البزيغية.
وزعمت طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب: عمير بن بيان العجلي، وقالوا كما قالت الطائفة الأولى، إلا أنهم اعترفوا بأنهم يموتون، وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة السكوفة يجتمعون فيها على عبادة الصادق رضي الله عنه، فرفع خبرهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة، فأخذ عميرا فصلبه في كناسة الكوفة، وتسمى هذه الطائفة العجلية والعميرية أيضا.
وزعمت طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب مفضل الصيرفي. وكانوا يقولون بربوبية جعفر دون نبوته ورسالته. وتسمى هذه الفرقة المفضلية.
وتبرأ من هؤلاء كلهم جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه وطردهم ولعنهم. فإن القوم كلهم حيارى، ضالون، داهلون بحال الأئمة تائهون.
"ز" الكيالية:
أتباع أحمد بن الكيال. وكان من دعاة واحد من أهل البيت بعد جعفر بن محمد الصادق، وأظنه من الأئمة المستورين.
ولعله سمع كلمات علمية فخلطها برأيه القائل، وفكره العاطل، وأبدع مقالة في كل باب علمي على قاعدة غير مسموعة، ولا معقولة. وربما عاند الحسن في بعض المواضع.
ولما وقفوا على بدعته تبرءوا منه ولعنوه وأمروا شعيتهم بمنابذته وترك مخالطته. ولما عرف الكيال ذلك منهم صرف الدعوة إلى نفسه، وادعى الإمامة أولا، ثم ادعى أنه القائم ثانيا.
وكان من مذهبه أن كل من قدر الآفاق على الأنفس، وأمكنه أن يبين مناهج العالمين؛ أعني عالم الآفاق وهو العالم العلوي، وعالم الأنفس؛ وهو العالم السفلي، كان هو الإمام. وأن كل من قرر الكل في ذاته، وأمكنه أن يبين كل كلي في شخصه المعين الجزئي، كان هو القائم. قال: ولم يوجد في زمن من الأزمان أحد يقرر هذا التقرير إلا أحمد الكيال، فكان هو القائم.
وإنما قتله من انتمى إليه أولا على بدعته ذلك أنه هو الإمام، ثم القائم. وبقيت من مقالته في العالم تصانيف عربية وعجمية، كلها مزخرفة مردودة شرعا وعقلا.
قال الكيال: العوالم ثلاثة: العالم الأعلى، والعالم الأدنى، والعالم الإنساني.
وأثبت في العالم الأعلى خمسة أماكن: الأول: مكان الأماكن وهو مكان فارغ لا يسكنه موجود، ولا يدبره روحاني، وهو محيط بالكل. قال: والعرش الوارد في الشرع عبارة عنه. ودونه: مان النفس الأعلى. ودونه: مكان النفس الناطقة. ودونه: مكان النفس الإنسانية.
قال: وأرادت النفس الإنسانية الصعود إلى عالم النفس الأعلى، فصعدت وخرقت المكانين: أعني الحيوانية، والناطقة. فلما قربت من الوصول إلى عالم النفس الأعلى: كلت وانحسرت، وتحيرت وتعفنت، واستحالت أجزاؤها فأهبطت إلى العالم السفلي. ومضت عليها أكوار وأدوار، وهي في تلك الحالة من الفعونة والاستحالة. ثم ساحت عليها النفس الأعلى، وأفاضت عليها من أنوارها جزءا. فحدثت التراكيب في هذا العالم، وحدثت السماوات والأرض، والمركبات من المعادن والنبات والحيوان، والإنسان ووقعت في بلايا هذا التراكيب تارة سرورا، وتارة غما، وتارة فرحا، وتارة ترحا. وطورا سلامة وعافية، وطورا بلية ومحنة حتى يظهر القائم، ويردها إلى حال الكمال، وتنحل التراكيب، وتبطل المتضادات، ويظهر الروحاني على الجسماني. وما ذلك القائم إلا أحمد الكيال.
ثم دل علي تعيين ذاته بأضعف ما يتصور، وأوهى ما يقدر، وهو أن اسم أحمد مطابق للعوالم الأربعة. فالألف من اسمه في مقابلة النفس الأعلى، والحاء في مقابلة النفس النةاطقة، والميم في مقابلة النفس الحيوانية، والدال في مقابلة النفس الإنسانية. قال: والعوالم الأربعة هي المبادئ والبسائط. وأما مكان الأماكن فلا وجود فيه ألبتة.
ثم أثبت في مقابلة العوالم العلوية: العالم السفلي الجسماني، قال: فالسماء خالية، وهي في مقابلة مكان الأماكن، ودونها النار، ودونها الهواء، ودونه الأرض، ودونها الماء وهذه الأربعة في مقابلة العوالم الأربعة.
ثم قال: الإنسان في مقابلة النار، والطائر في مقابلة الهواء، والحيوان في مقابلة الأرض، والحوت في مقابلة الماء وكذلك ما في معناه، فجعل مركز الماء أسفل المراكز والحوت أخس المركبات.
ثم قابل العالم الإنساني الذي هو أحد الثلاثة؛ وهو عالم الأنفس، مع آفاق العالمين الأولين: الروحاني والجسماني، قال: الحواس المركبة فيه خمس:
فالسمع في مقابلة مكان الأماكن، إذ هو فارغ، وفي مقابلة السماء.
والبصر في مقابلة النفس الأعلى من الروحاني، وفي مقابلة النار من الجسماني، وفيه إنسان العين لأن الإنسان مختص بالنار.
والشم في مقابلة الناطق من الروحاني، والهواء من الجسماني؛ لأن الشم من الهواء يتروح ويتنسم.
والذوق في مقابلة الحيواني من الروحاني، والأرض من الجسماني، والحيوان مختص بالأرض، والطعم بالحيوان.
واللمس في مقابلة الإنساني من الروحاني، والماء من الجسماني، والحوت مختص بالماء واللمس بالحوت، وربما عبر عن اللمس بالكتابة.
ثم قال: أحمد: هو ألف، وحاء، وميم، ودال، وهو في مقابلة العالمين:
أما في مقابلة العالم العلوي الروحاني فقد ذكرناه.
وأما في مقابلة العالم السفلي الجسماني؛ فالألف تدل على الإنسان، والحاء تدل على الحيوان، والميم على الطائر، والدال على الحوت. فالألف من حيث استقامة القامة كالإنسان، والحاء كالحيوان لأنه معوج منكوس، ولأن الحاء من ابتداء اسم الحيوان، والميم تشبه رأس الطائر، والدال تشبه ذنب الحوت.
ثم قال: إن الباري تعالى إنما خلق الإنسان على شكل اسم أحمد، فالقامة: مثل الألف، واليدان مثل الحاء، والبطن مثل الميم، والرجلان مثل الدال.
ثم من العجب أنه قال: إن الأنبياء ثم قادة أهل التقليد، وأهل التقليد عميان، والقائم قائد أهل البصيرة، وأهل البصيرة أولو الألباب، وإنما يحصلون البصائر بمقابلة الآفاق والأنفس.
والمقابلة كما سمعتها من أخس المقالات، وأوهى المقابلات، بحيث لا يستجيز عاقل أن يسمعها فكيف يرضى أن يعتقدها؟!
وأعجب من هذا كله تأويلاته الفاسدة، ومقابلاته بين الفرائض الشرعية والأحكام الدينية. وبين موجودات عالمي الآفاق والأنفس وادعاؤه أنه متفرد بها. وكيف يصح له ذلك؟ وقد سبقه كثير من أهل العلم بتقرير ذلك، لا على الوجه المزيف الذي قرره الكيال، وحمله الميزان على العالمين، والصراط على نفسه، والجنة على الوصول إلى علمه من البصائر، والنار على الوصول إلى ما يضاده؟!
ولما كانت أصول علمه ما ذكرناه، فانظر كيف يكون حال الفروع؟!
"ح" الهاشمية:
أصحاب الهاشمين: هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه، وهشام بن سالم الجواليقي الذي نسج على منواله في التشبيه.
وكان هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة، وجرت بينه وبين أبي الهذيل مناظرات في علم الكلام، منها في التشبيه، ومنها في تعلق علم الباري تعالى.
حكى ابن الرواندي عن هشام أنه قال: إن بين معبوده وبين الأجسام تشابها ما، بوجه من الوجوه. ولولا ذلك لما دلت عليه.
وحكى الكعبي عنه أنه قال: هو جسم ذو أبعاض، له قدر من الأقدار ولكن لا يشبه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء.
ونقل عنه أنه قال: هو سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه في مكان مخصوص، وجهة مخصوصة، وأنه يتحرك، وحركته فعله، وليست من مكان إلى مكان.
وقال: هو متناه بالذات؛ غير متناه بالقدرة. وحكى عنه أبو عيسى الوراق أنه قال: إن الله تعالى مماس لعرشه، لا يفضل منه شيء من العرش، ولا يفضل من العرش شيء عنه.
ومن مذهب هشام أنه قال: لم يزل الباري تعالى عالما بنفسه، ويعلم الأشياء بعد كونها بعلم؛ لا يقال فيه إنه محدث، أو قديم، لأنه صفة، والصفة لا توصف. ولا يقال فيه: هو هو، أو غيره أو بعضه.
وليس قوله في القدرة والحياة كقوله في العلم، إلا أنه لا يقول بحدوثهما. قال: ويريد الأشياء، وإرادته حركة ليست هي عين الله، ولا هي غيره.
وقال في كلام الباري تعالى: إنه صفة للباري تعالى ولا يجوز أن يقال هو مخلوق، أو غير مخلوق.
وقال: الأعراض لا تصلح أن تكون دلالة على الله تعالى، لأن منها ما يثبت استدلالا، وما يستدل به على الباري تعالى يجب أن يكون ضروري الوجود لا استدلالا. وقال: لاستطاعة كل ما لا يكون الفعل إلا به كالآلات، والجوارح، والوقت، والمكان.
وقال هشام بن سالم إنه تعالى على صورة إنسان؛ أعلاه مجوف، وأسفله مصمت، وهو نور ساطع يتلألأ، وله حواس خمس، ويد، ورجل، وأنف، وأذن، وفم. وله وفرة سوداء، هي نور أسود، لكنه ليس بلحم ولا دم. وقال هشام بن سالم: الاستطاع بعض المستطيع. وقد نقل عنه أنه أجاز المعصية على الأنبياء مع قوله بعصمة الأئمة.
ويفرق بينهما بأن النبي يوحى إليه فينبه على وجه الخطأ فيتوب عنه. والإمام لا يوحي إليه فتجب عصمته.
وغلا هشام بن الحكم في حق علي رضي الله عنه حتى قال: إنه إله واجب الطاعة. وهذا هشام بن الحكم صاحب عور في الأصول، لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة، فإن الرجل وراء ما يلزم به على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه. وذلك أنه ألزم العلاف فقال: إنك تقول: الباري تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته، فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم. ويباينها في أن علمه ذاته، فيكون علاما لا كالعالمين. فلم لا تقول: إنه جسم لا كالأجسام، وصورة لا كالصور، وله قدر لا كالأقدار، إلى غير ذلك؟
ووافقه زرارة بن أعين في حدوث علم الله تعالى، وزاد عليه بحدوث قدرته، وحياته، وسائر صفاته، وأنه لم يكن قبل حدوث هذه الصفات: عالما، ولا قادرا، ولا حيا، ولا سميعا، ولا بصيرا، ولا مريدا، ولا متكلما.
وكان يقول بإمامة عبد الله بن جعفر. فلما فاوضه في مسائل، ولم يجده بها مليا رجع إلى موسى بن جعفر، وقيل أيضا إنه لم يقل بإمامته إلا أنه أشار إلى المصحف وقال: هذا إمامي، وإنه كان قد التوى على عبد الله بن جعفر بعض الالتواء.
وحكى عن الزرارية أن المعرفة ضرورية. وأنه لا يسع جهل الأئمة. فإن معارفهم كلها فطرية ضرورية، وكل ما يعرفه غيرهم بالنظر فهو عندهم أولي ضروري، وفطرياتهم لا يدركها غيرهم.
"ط" النعمانية:
أصحاب محمد بن النعمان أبي جعفر الأحوال، الملقب بشيطان الطاق. وهم الشيطانية أيضا.
والشيعة تقول: هو مؤمن الطاق.
وهو تلميذ الباقر: محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم، وأفضى إليه أسرارا من أحواله وعلومه، وما يحكى عنه من التشبيه فهو غير صحيح.
قيل: وافق هشام بن الحكم في أن الله تعالى لا يعلم شيئا حتى يكون والتقدير عنده الإرادة، والإرادة فعله تعالى1.
وقال إن الله تعالى نور على صورة إنسان رباني. ونفى أن يكون جسما لكنه قال: قد ورد في الخبر "إن الله خلق آدم على صورته" و "على صورة الرحمن"، فلا بد من تصديق الخبر. ويحكى عن مقاتل بن سليمان مثل مقالته في الصورة. وكذلك يحكى عن داود الجواربي، ونعيم بن حماد المصري وغيرهما من أصحاب الحديث أنه تعالى ذو صورة وأعضاء.
ويحكى عن داود أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك؛ فإن في الأخبار ما يثبت ذلك.
وقد صنف ابن النعمان كتبا جمة للشيعة منها: افعل، لم فعلت. ومنها: افعل، لا تفعل. ويذكر فيها أن كبار الفرق أربع: الفرقة الأولى عنده: القدرية، الفرقة الثانية عنده: الخوارج. الفرقة الثالثة عنده: العامة. الفرقة الرابعة عنده: الشيعة.
ثم عين الشيعة بالنجاة في الآخرة من هذه الفرق.
وذكر عن هشام بن سالم، ومحمد بن النعمان أنهما أمسكا عن الكلام في الله، ورويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول الله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 1 قال: إذا بلغ الكلام إلى الله تعال فأمسكوا، فأمسكا عن القول في الله، والتفكر فيه حتى ماتا، هذا نقل الوراق.
ومن جملة الشيعة:
"ي" اليونسية:
أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي1 مولى آل يقطين. زعم أن الملائكة تحمل العرش، والعرش يحمل الرب تعالى، إذ قد ورد في الخبر: أن الملائكة تئط أحيانا من وطأة عظمة الله تعالى على العرش.
وهو من مشبهة الشيعة، وقد صنف لهم كتابا في ذلك.
"ك" النصيرية 2، والإسحاقية:
من جملة غلاة الشيعة. ولهم جماعة ينصرون مذهبهم، ويذبون عن أصحاب مقالاتهم: وبينهم خلاف في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من أهل البيت. قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل. أما في جانب الخير فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص، والتصور بصورة أعرابي، والتمثل بصورة البشر. وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشر بصورته. وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه. فكذلك نقول: إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص.
ولما لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شخص أفضل من علي رضي الله عنه وبعده أولاده المخصوصون؛ وهم خير البرية. فظهر الحق بصورتهم، ونطق بلسانهم، وأخذ بأيديهم. فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم. وإنما أثبتنا هذا الاختصاص لعلي رضي الله عنه دون غيره، لأنه كان مخصوصا بتأييد إلهي من عند الله تعالى فيما يتعلق بباطن الأسرار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر" وعن هذا كان قتال المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقتال المنافقين إلى علي رضي الله عنه. وعن هذا شبهه بعيسى ابن مريم عليه السلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن يقول الناس فيك ما قالوا في عيسى ابن مريم عليه السلام لقلت فيك مقالا".
وربما أثبتوا له شركة في الرسالة، إذ قال النبي عليه السلام: "فيكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله، ألا وهو خاصف النعل" فعلم التأويل، وقتال المنافقين ومكالمة الجن، وقلع باب خيبر، لا بقوة جسدانية، من أول الدليل على أن فيه جزءا إلهيا، وقوة ربانية. ويكون هو الذي ظهر الإله بصورته، وخلق بيديه، وأمر بلسانه. وعن هذا قالوا: كان موجودا قبل خلق السموات والأرض. قال: كنا أظلة عن يمين العرش، فسبحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا، فتلك الظلال، وتلك الصور التي تنبئ عن الظلال: هي حقيقته. وهي مشرقة بنور الرب تعالى إشراقا لا ينفصل عنها، سواء كانت في هذا العالم، أو في ذلك العالم. وعلى هذا قال علي رضي الله عنه: أنا من أحمد كالضوء من الضوء. يعني لا فرق بين النورين إلا أن أحدهما سابق، والثاني لاحق به، تال له. قالوا: وهذا يدل على نوع من الشركة.
فالنصيرية أميل إلى تقرير الجزء الإلهي. والإسحاقية أميل إلى تقرير الشركة في النبوة.
ولهم اختلافات كثيرة أخرى لا نذكرها.
وقد نجزت الفرق الإسلامية، وما بقيت إلا فرقة الباطنية. وقد أوردهم أصحاب التصانيف في كتب المقالات، إما خارجة عن الفرق، وإما داخلة فيها. وبالجملة هم قوم يخالفون الاثنين والسبعين فرقة.
رجال الشيعة ومصنفو كتبهم من المحدثين
فمن الزيدية: أبو خالد الواسطي، ومنصور بن الأسود، وهارون بن سعد العجلي.
"جارودية":
ووكيع بن الجراح. ويحيى بن آدم، وعبيد الله بن موسى، وعلي بن صالح، والفضل ابن دكين، وأبو حنيفة.
"بترية":
وخرج محمد بن عجلان مع محمد الإمام:
وخرج إبراهيم بن سعيد، وعباد بن عوام، ويزيد بن هارون، والعلاء بن راشد، وهشيم بن بشير، والعوام بن حوشب، ومستلم بن سعيد مع إبراهيم الإمام.
ومن الإمامية وسائر أصناف الشيعة: سالم بن أبي الجعد، وسالم بن أبي حفصة، وسلمة بن كهيل، وثوير بن أبي فاختة، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو المقدام، وشعبة، والأعمش، وجابر الجعفي، وأبو عبد الله الجدلي، وأبو إسحاق السبيعي، والمغيرة، وطاووس والشعبي، وعلقمة، وهيبيرة بن بريم، وحبة العرني، والحارث الأعور.
ومن مؤلفي كتبهم: هشام بن الحكم. وعلي بن منصور، ويونس بن عبد الرحمن، والشكال، والفضل بن شاذان، والحسين بن إشكاب، ومحمد بن عبد الرحمن، وابن قبة، وأبو سهل النوبختي، وأحمد بن يحيى الرواندي.
ومن المتأخرين: أبو جعفر الطوسي.
مصادر و المراجع :
١- الملل والنحل
المؤلف: أبو
الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)
الناشر: مؤسسة
الحلبي
15 يوليو 2024
تعليقات (0)