المنشورات
الإسماعيلية
قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنى عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر. وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر.
قالوا: ولم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه بواحدة من النساء، ولا تسرى بجارية كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها.
وقد ذكرنا اختلافاتهم في موته في حال حياة أبيه:
فمنهم من قال إنه مات، وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى على هارون عليهما السلام ثم مات هارون في حال حياة أخيه. وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده. فإن النص لا يرجع قهقرى. والقول بالبداء محال. ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه. والتعين لا يجوز على الإبهام والجهالة.
ومنهم من قال: إنه لم يمت، ولكنه أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل. ولهذا القول دلالات: منها أن محمدا كان صغيرا، وهو أخوه لأمه؛ مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائما عليه ورفع الملاءة فأبصره وقد فتح عينيه فعاد إلى أبيه مفزعا وقال: عاش أخي، عاش أخي. قال والده: إن أولاد الرسول عليه السلام كذا تكون حالهم في الآخرة. قالوا: ومنها السبب في الإشهاد على موته وكتب المحضر عنه ولم نعهد ميتا سجل على موته. وعن هذا لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر رؤي بالبصرة، وقد مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله تعالى، بعث المنصور إلى الصادق أن إسماعيل بن جعفر في الأحياء، وأنه رؤي بالبصرة، أنفذ السجل إليه، وعليه شهادة عامله بالمدينة.
قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام. وإنما تم دور السبعة به. ثم ابتدئ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد سرا، ويظهرون الدعاة جهرا.
قالوا: ولن تخلو الأرض قط من إمام حي قائم، إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور. فإذا كان الإمام ظاهرا جاز أن يكون حجته مستورا. وإذا كان الإمام مستورا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين.
وقالوا: إن الأئمة تدور أحكامهم على سبعة سبعة كأيام الأسبوع، والسموات السبع، والكواكب السبعة. والنقباء تدور أحكامهم على اثني عشر.
قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية حيث قرروا عدد النقباء للأئمة.
ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي بالله، والقائم بأمر الله وأولادهم نصا بعد نص، على إمام بعد إمام.
ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية.
ولهم دعوة في كل زمان، ومقالة جديدة بكل لسان. فنذكر مقالاتهم القديمة ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة.
"أشهر ألقابهم":
وأشهر ألقابهم: الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا.
ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم:
فبالعراق يسمون: الباطنية، والقرامطة، والمزدكية.
وبخراسان: التعليمية، والملحدة.
وهم يقولون نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم، وهذا الشخص، ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج. فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول: هو موجود، ولا لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز.
وكذلك في جميع الصفات، فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينة وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك تشبيه. فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين وخالق المتخاصمين، والحاكم بين المتضادين. ونقلوا في هذا نصا عن محمد بن علي الباقر أنه قال: "لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر. فهو عالم قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة؛ لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة، أو وصف بالعلم والقدرة".
فقيل فيهم إنهم نفاة الصفات حقيقة، معطلة الذات عن جميع الصفات.
قالوا: وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث، بل القديم: أمره، وكلمته، والمحدث: خلقه وفطرته.
أبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس التالي الذي هو غير تام. ونسبة النفس إلى العقل إما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة، والبياض إلى الطير وإما نسبة الولد إلى الوالد، والنتيجة إلى المنتج. وإما نسبة الأنثى إلى الذكر، والزوج إلى الزوج.
قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت إلى آلة الحركة، فحدثت الأفلاك السماوية وتحركت حركة دورية بتدبيرالنفس، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها. وتحركت حركة استقامة بتدبير النفس أيضا، فتركبت المركبات من المعادن، والنبات، والحيوان، والإنسان. واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان. وكان نوع الإنسان متميزا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في مقابلة العالم كله.
وفي العالم العلوي عقل، ونفس كلي، فوجب أن يكون في هذا العالم عقل مشخص هو كل. وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ، ويسمونه الناطق، وهو النبي ونفس مشخصة، وهو كل أيضا؛ وحكمه حكم الطفل الناقص المتوجه إلى الكمال، أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوجة بالذكر، ويسمونه الأساس، وهو الوصي.
قالوا: وكما تحركت الأفلاك والطبائع بتحريك النفس والعقل، كذلك تحركت النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائرا على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير، ويدخل زمان القيامة، وترتفع التكاليف، وتضمحل السنن والشرائع.
وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها. وكمالها بلوغها إلى درجة العقل واتحادها به، ووصولها إلى مرتبته فعلا؛ وذلك هو القيامة الكبرى، فتنحل تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات، وتنشق السماء وتتناثر الكواكب، وتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السماء كطي السجل للكتاب المرقوم وفيه يحاسب الخلق ويتميزالخير عن الشر، والمطيع عن العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل بالشيطان المضل المبطل. فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال.
ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من الأحكام الشرعية: من بيع وإجارة وهبة ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية، إلا وله وزان من العالم: عددا في مقابلة عدد، وحكما في مطابقة حكم، فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية. والعوالم شرائع جسمانية خلقية. وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان التركيبات في الصور والأجسام، والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط المجردة إلى المركبات من الأجسام. ولكل حرف وزان في العالم، وطبيعة يخصها، وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس.
فعن هذا صارت العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية غذاء للأبدان. وقد قدر الله تعالى أن يكون غذاء كل موجود مما خلق منه. فعلى هذا الوزان صاروا إلى ذكرلا أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة واثني عشر. وأن التهليل مركب م نأربع كلمات في إحدى الشهادتين، وثلاث كلمات في الشهادة الثانية. وسبع قطع في الأولى، وست في الثانية، واثني عشر حرفا في الأولى، واثني عشر حرفا في الثانية. وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن ذلك خوفا من مقابلته بضده. وهذه المقابلات كان طريقة أسلافهم؛ قد صنفوا فيها كتبا، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.
ثم إن أصحاب الدعوة الجديد تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن محمد بن الصباح دعوته، وقصر على الإلزمات كلمته، واستظهر بالرجال، وتحصن بالقلاع.
وكان بدء صعوده على قلعة الموت في شهر شعبان سنة ثلاثة وثمانين وأربعمائة؛ وذلك بعد أن هاجر إلى بلاد إمامه. وتلقى منه كيفية الدعوى لأبناء زمانه. فعاد ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان. وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة وهي: أن لهم إماما، وليس لغيرهم إمام. وإنما تعود خلاصة كلامه بعد ترديد القول فيه عودا على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف.
ونحن ننقل ما كتبه بالعجمية إلى العربية. ولا معاب على الناقل، والموقف من اتبع الحق، واجتنب الباطل، والله الموقف والمعين.
فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ بها دعوته، وكتبها عجمية فعربتها.
الأول: قال: للمفتي في معرفة الله تعالى أحد قولين: إما أن يقول أعرف الباري تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم. وإما أن يقول: لا طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم. قال: ومن أفتى بالأول فليس له الإنكار على عقل غيره ونظره. فإنه متى أنكر فقد علم، والإنكار تعليم، ودليل على أن المنكر عليه محتاج إلى غيره. قال: والقسمان ضروريان؛ لأن الإنسان إذا أفتى بفتوى، أو قال قولا، فإما أن يعتقده من نفسه، أو من غيره.
هذا هو الفصل الأول، وهو كسر على أصحاب الرأي والعقل.
وذكر في الفصل الثاني: أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم، أفيصلح كل معلم على الإطلاق، أم لا بد من معلم صادق؟ قال: ومن قال إنه يصلح كل معلم ما ساغ له الإنكار على معلم خصمه. وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم صادق معتمد.
قيل: وهذا كسر على أصحاب الحديث.
وذكر في الفصل الثالث: أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق، أفلا بد من معرفة المعلم أولا والظفر به، ثم التعلم منه؟ أم جاز التعلم من كل معلم من غير تعيين شخصه، وتبيين صدقه؟ والثاني رجوع إلى الأول. ومن لم يمكنه سلوك الطريق إلا بمقدم ورفيق، فالرفيق ثم الطريق، وهو كسر على الشيعة.
وذكر في الفصل الرابع: أن الناس فرقتان؛ فرقة قالت نحن نحتاج في معرفة الباري تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولا، ثم التعلم منه. وفرقة أخذت في كل علم من معلم وغير معلم. وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع الفرقة الأولى فرئيسهم يجب أن يكون رئيس المحقين. وإذ تبين أن الباطل مع الفرقة الثانية فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين.
قال: وهذه الطريقة هي التي عرفنا بها المحق بالحق معرفة مجملة: ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة مفصلة حتى لا يلزم دوران المائل.
وإنما عني بالحق ههنا: الاحتياج، وبالمحق: المحتاج إليه. وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام، وبالإمام عرفنا مقادير الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب، أي واجب الوجود وبه عرفنا مقادير الجواز في الجائزات.
قال: والطريق إلى التوحيد كذلك، حذو القذة بالقذة.
ثم ذكر فصولا في تقرير مذهبه إما تمهيدا، وإما كسرا على المذاهب، وأكثرها كسر وإلزام واستدلال بالاختلاف على البطلان، وبالاتفاق على الحق.
منها فصل "الحق والباطل" الصغير، والكبير. يذكر أن في العالم حقا وباطلا. ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة، وعلامة الباطل هي الكثرة. وأن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي. والتعليم مع الجماعة، والجماعة مع الإمام. والرأي مع الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم.
وجعل الحق والباطل، والتشابه بينهما من وجه، والتمايز بينهما من وجه، والتضاد في الطرفين، والترتيب في أحد الطرفين؛ ميزانا يزن به جميع ما يتكلم فيه.
قال: وإنما أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة، وتركيبها من النفي والإثبات، أو النفي والاستثناء.
قال: فما هو مستحق النفي باطل، وما هو مستحق الإثبات حق. ووزن بذلك الخير والشر، والصدق والكذب، وسائر المتضادات. ونكتته أن يرجع في اكل مقالة وكلمة إلى إثبات المعلم، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معا، حتى يكون توحيدا. وأن النبوة هي النبوة والإمامة معا حى كتون نبوة، وهذا هو منتهى كلامه.
وقد منع العوام عن الخوض في العلوم. وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب، ودرجة الرجال في كل علم.
ولم يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إن إلهنا إله محمد. قال: وأنتم تقولون: إلهنا إله العقول، أي: ما هدي إليه عقل كل عاقل. فإن قيل لواحد منهم: ما تقول في الباري تعالى؟ وأنه هل هو واحد أم كثير؟ عالم أم لا؟ قادر أم لا؟ لم يجب إلا بهذا القدر: إن إلهي إله محمد و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1.
والرسول هو الهادي إليه.
وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة فلم يتخطوا عن قولهم: أفنحتاج إليك؟ أو نسمع هذا منك؟ أو نتعلم عنك؟
وكم قد ساهلت القوم في الاحتياج، وقلت: أين المحتاج إليه؟ وأي شيء يقرر لي في الإلهيات؟ وماذا يرسم لي في المعقولات؟ إذ المعلم لا يعني لعينه، وإنما يعني ليعلم. وقد سددتم باب العلم، وفتحتم باب التسليم والتقليل، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهبا على غير بصيرة، وان يسلك طريقا من غير بينة.
وإن كانت مبادئ الكلام تحكيمات، وعواقبها تسليمات {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.
مصادر و المراجع :
١- الملل والنحل
المؤلف: أبو
الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)
الناشر: مؤسسة
الحلبي
15 يوليو 2024
تعليقات (0)